نون والقلم

صحة الإنسان ليست تجارة

تعد دولة الإمارات العربية المتحدة من الدول القليلة التي توفر الرعاية الصحية المجانية لموظفي الحكومة، وتقدم برنامجاً متكاملاً للضمان الصحي الشامل، وإن تفاوتت نسب تحمل الفرد من الفاتورة، وبعض أنواع الضمان الصحي يشمل العلاج في الخارج، ولاسيما في الحالات الطارئة.
كما تطلب الحكومة من القطاع الخاص ضرورة توفير الضمان الصحي للموظفين والعمال وفق معايير منظمة العمل الدولية. وزيادة في تنظيم تقديم الرعاية الصحية، بات يطلب من الزائر أيضاً الاشتراك في نظام الضمان الصحي طوال فترة إقامته داخل الدولة.
وتأتي هذه الرعاية في إطار التنمية البشرية والرعاية المستدامة، ضمن خطة تحسين المعيشة، وتطوير الخدمات الطبية والصحية، وتحقيق الاستقرار والأمان النفسي والاجتماعي للمجتمع.
لقد لوحظ بعد الانتقال من البطاقة الصحية التي كانت توفرها الدولة، إلى بطاقة الضمان الصحي، وما حملته من حرية العلاج في القطاع الخاص، زيادة في عدد المستشفيات والعيادات والمراكز الطبية الخاصة، مما وفر للمريض خيارات واسعة للعلاج.
ولا يخفى على أحد أن مؤسسات طبية وصحية كثيرة بالغت في كيفية تقديم الرعاية وأساليب العلاج إلى درجة كبيرة، خاصة في وصف كمية الدواء والفيتامينات، وطلب الفحوص الضرورية وغير الضرورية، وبعض المراكز والمستشفيات تحرص على أن يصبح المريض زبوناً دائماً حتى وإن تطلب الأمر التهويل في التشخيص أو مد فترة العلاج، خاصة إذا كان المريض يحمل بطاقة ضمان شاملة لا يترتب عليه تحمّل أي نسبة من تكاليف العلاج. وهذه البطاقة فتحت الباب واسعاً أمام المرضى للتردد على أكثر من طبيب للاستشارة والمقارنة والتأكد من صحة التشخيص، وبعض المرضى أيضاً استغل البطاقة لإجراء عمليات تجميلية. الأمر الذي ضاعف من فاتورة الدولة للمستشفيات والمراكز العلاجية، مما حدا بهيئة أبوظبي الصحية إلى ربط المؤسسات الصحية والعلاجية بشبكة إلكترونية، وتشكيل لجان تعمل على مدار الساعة مهمتها مراجعة التشخيص والموافقة على صرف الأدوية، وقد صرحت الهيئة سابقاً أنها رفضت أكثر من 20 ألف وصفة طبية تبين لها عدم حاجة المريض إليها، خاصة أن الكثير من الأطباء كانوا يصرفون أدوية لا يحتاج المريض إليها، حتى أن بعض المرضى وجد بيته وقد امتلأ بعبوات الدواء غير المستخدمة. وهذا لا يمكن وصفه إلا باستغلال بعضهم لكرم الدولة في توفير الرعاية الطبية والصحية للمواطنين والمقيمين.
لقد أدى الوضع الحالي وتوفير الحكومة للرعاية الصحية والطبية إلى استشراس بعض مستشفيات القطاع الخاص في تحصيل الأرباح، حتى أن بعض المستشفيات والمراكز تطلب من الأطباء ضرورة تحقيق الهدف المالي (target) للحصول على راتبه، وللتوضيح، قد يطلب من الطبيب إدخال نحو خمسين ألف درهم إلى خزانة المستشفى شهرياً حتى يتمكن من الحصول على راتبه، فيضطره ذلك إلى اللجوء لصرف أدوية غير ضرورية، أو طلب فحوص وصور غير ضرورية أيضاً، وإقناع المريض بضرورة وأهمية تناول بعض الأدوية مدى الحياة، والمراجعة الدائمة والدورية لمتابعة صحته. أي يقوم الطبيب بإيهام المريض بأنه يعاني من ضغط دم وكوليسترول، فيصف له أدوية هذه الأمراض، للمحافظة على صحته أو للوقاية من تلك الأمراض.
في المحصلة، نحن أمام أنواع كثيرة من الاحتيال واستغلال المريض والحكومة معاً، والتخلي عن القيم وأخلاقيات الطب، وضرب قسم أبوقراط بالحائط لتحقيق الأرباح، والمتاجرة بصحة المرضى والناس، حتى أصبح المريض زبوناً دائماً، وليس مجرد مراجع للاستشفاء من مرض معين.
القطاع الطبي والصحي هو قطاع إنساني في المقام الأول، والمتاجرة بصحة الناس جريمة كبرى، وعمل غير أخلاقي يقترب من الإتجار بالبشر، ومن غير المعقول أن تلجأ بعض المؤسسات الصحية، خاصة في القطاع الخاص، إلى وضع الطبيب في خانة التجارة بصحة الناس، فالطبيب ليس موظف مبيعات حتى يُطلب منه تحقيق ال(هدف مالي)، فماذا سيعمل لو أن أحداً لم يراجعه في شهر من الشهور، أو أن نسبة المراجعين كانت ضئيلة، ولم يتمكن من توفير مبالغ لخزينة المستشفى؟ هل سيُعد طبيباً فاشلاً ويجب إنهاء خدماته؟ وماذا سيعمل الطبيب الذي يعمل بنظام الساعة أيضاً في المستشفيات حين يمرض هو أو يضطر للذهاب في إجازة، وهو حقه الطبيعي، هل سيتم حرمانه من الراتب والأجر؟
إن عملية تقديم الخدمات الصحية والعلاجية عملية متكاملة بين القطاعين الخاص والعام، ولا يجب على أي طرف استغلال الآخر، والقطاع الخاص وإن كان تجارياً يهدف إلى الربح، ولكن عليه أن يحقق ربحاً في صحة الإنسان أولاً وأخيراً.
لقد تحدثنا عن مظاهر محددة وقليلة، وعن الكثير من المرضى الذين يمتلكون تجارب سيئة تعرضوا لها عن طريق استغلالهم المادي أو استغلال جهلهم في الأمور الطبية، فالمريض كما يقال يتعلق بقشة، ولكن هذه القشة يجب أن تكون رحيمة به.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى