نون والقلم

الفتنة الطائفية.. شهادة لها تاريخ

في مصر فتنة طائفية. هكذا بدا الأمر في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1972، عندما اشتعلت نيرانها في «مركز الخانكة». شُكلت لجنة برلمانية لتقصي الحقائق ترأسها الفقيه القانوني، الدكتور جمال العطيفي، انتهت بعد عشرين يوماً، إلى استخلاصات وتوصيات، لاقت قبولاً عاماً، لكنها أُودعت الأدراج إلى الأبد.
كان ذلك خطأ فادحاً دفعنا ثمنه لنحو خمس وأربعين سنة، تمددت فيها الفتن واشتعلت النيران في «سمالوط» و«أبوزعبل»، 1978، و«الزاوية الحمراء»، 1981، و«شبرا» و«الزيتون» و«امبابة»، 1991، و«الكشح»، 2000، كما مناطق أخرى على الخريطة، ربما لم يسمع باسمها أحد من قبل، حتى وصلنا في 2016، إلى أحداث مماثلة في محافظات «المنيا» و«بني سويف» و«أسوان». لكل فتنة قصتها الجانبية التي تنفخ نيرانها، وأسباب عميقة تذكيها.
ما هو جانبي يتغير من حالة إلى أخرى، وما هو عميق وراء الفتن كلها.
أسوأ خيار ممكن إنكار الفتنة وتجاهل نتائجها المدمرة على سلامة المجتمع.
في الإنكار تمديد للفتن، وفي غياب السياسات المعروفة نلف وندور حول الملف الملغوم، من دون أن نتجنب انفجاراته من وقت لآخر.
أول الأسئلة الحقيقية: أين الأسباب الكامنة في بنية المجتمع بأزماته وإحباطاته وثقافته الشائعة؟
وثاني تلك الأسئلة: ما السياسات اللازمة لمواجهة الفتن عند الجذور؟
رغم أهمية مشروع قانون دور العبادة الموحد، فإنه ليس بذاته حلاً يمنع الفتن، فمصر لا تنقصها عشرات الآلاف من المساجد، ولا المسيحيون يفتقدون الكنائس التي يصلون فيها.
في مصر فتنة طائفية. بتلك الجملة القاطعة بدأ الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين، في مارس/آذار 1987 سلسلة أعمدة يومية استغرقت أسبوعاً عن فتنة، كادت تبدد السلام النفسي قبل الاجتماعي، وتذهب بالعقل إلى ما يتجاوز الجنون.
في تلك الأيام انشغلت مصر بقصص وشائعات عن «القماش الذي يظهر الماء عليه رسم الصليب، والكف التي إذا صافحتك طبعت على يدك رسم الصليب».
بتعبيره: «كنت أرتعد لسريان هذه الخرافات، وما يترتب عليها من حقائق نفسية وعقلية ومادية مرعبة».
نسمع الأوصاف نفسها عبر العقود المتتالية عند كل فتنة: «الأحداث المؤسفة» «الأحداث الفردية» «عناصر مدسوسة» و«أيادٍ أجنبية» كأن «الكل بريء ولا أحد مسؤول، ونحن جميعاً ملائكة».
في كل مرة ترتفع الأصوات، مطالبة بتحرك القيادات الرسمية والسياسية من العاصمة، لمواجهة جذور المشكلة لا نتائجها، وكأن ما كتبه الأستاذ «بهاء» قراءة لما سوف يكون، لا ما كان يومها.
حاول أن يمسك بصلب الأزمة، أزمة التعصب، ف«كل إنسان يوجد في ركن من نفسه مكان يمكن أن ينبت فيه التعصب للون أو الجنس أو الدين».
التعصب هو المادة الخام لكل فتنة، و«له ميكانيكية ثابتة عبر كل العصور، وكل المجتمعات. فالأزمة الاقتصادية وضيق الرزق وتوتر الحياة من أسبابه».
كما أن «الإحباط إزاء عدو خارجي مثلاً، أو العجز عن مواجهة تحديات خارجية، يجعل الناس في عجزهم، ينكفئون على صراعات داخلية، لم تكن موجودة من قبل».
المعنى أن التعاسة الاجتماعية، كما العجز الوطني، من محركات الفتن، فضلاً عن إحباط الشباب الذي يعاني سوء التعليم والبطالة، والأفق مسدود أمامه، والدور السلبي الذي يلعبه الإعلام أحياناً، والجهالات التي تُنسب إلى الدين ظلماً.
«‬هذه بذور التعصب التي يأتي من يصب عليها الزيت فتتحول إلى نار».‬‬ الروح العامة، فيما كُتب أقرب إلى مشرط جراح، يداوي دون أن يُسيل دماً.
كتب نصاً عن «حقائق الموقف في صعيد مصر»: «إن بعض التجار يرسلون بضائعهم إلى القاهرة خوفاً من حوادث الحريق، وأن آخرين يخفون سياراتهم خارج المدن التي تعرضت لأحداث فتن طائفية، وأن البعض تقلع زراعاتهم في ريف تلك الأماكن، وأن صاحب الدكان في شارع مهم، إذا أراد أن يبيع محله حدث سباق حاد، وتساؤل: هل سوف يشتريه قبطي أم مسلم؟ وكأنه موقف استراتيجي».
بتعبيره «فإن هذه حقائق أليمة ومريرة، وقد جرى العمل على أنه لا يجوز نشرها علناً، ولكنني أؤمن بالمجتمع المفتوح، وأن طرح المشكلة مهما كانت جارحة ومناقشتها علناً هو السبيل الوحيد لحلها، وأن تجاهلها يؤدي إلى تراكمها حتى تصل إلى الانفجار».
مصر تحتاج إلى مثل هذه المصارحات بغرض المواجهة لا الإثارة.
‬‬«فن الحكم هو فن سبق المشكلات، مواجهتها وهي في المهد، وليس التأخر في إطفاء الحريق، بعد أن يكون قد أتى على كل شيء».
«‬من حق أي إنسان أن يتحدث حتى بمنطق الجهل في تمجيد دينه وجنسه وقومه، لكن ليس من حقه أن يتحدث مهاجماً ديناً آخر، ولابد من تجريم ذلك بالقانون. هذا تشريع مطلوب، فالخط الفاصل بين ما يجوز وما لا يجوز هو القانون، وليس الخطب المنبرية».‬‬ المعاني نفسها تتردد حتى الآن في الفضاء العام دون أن تتحول إلى قانون.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى