لا ريب في أن المعالجة الحاسمة لأغلب قضايا السودان الاقتصادية السياسية، والاجتماعية الثقافية، إنما تتوقف، بالدرجة الأولى، على إرساء مداميك «الوحدة الوطنية»، كما ولا شك في أن حلحلة معظم أسئلة هذه «الوحدة» إنما ترتهن، أساساً، ببسط «السلام الشامل»، غير أن تحقيق هذا «السلام» يبقى معلقاً، ضمن الكثير من المسائل، على شرط ترميم شروخات «التعايش الديني» في هذا البلد، خصوصاً بين مسلميه ومسيحييه. وبرغم ما ينتاب الكثير من قلق مشروع إزاء تردي هذا «التعايش، منذ بواكير تسعينات القرن المنصرم، إلا أن خبرة التاريخ تعلمنا أنه ظلَّ يشهد، فيما مضى، درجات من الانتعاش والازدهار، كلما اقترن بمستويات عالية من وعي الجماعة المسلمة بالقيمة الرفيعة لوجود الجماعة المسيحية، ولمشاركاتها، ومساهماتها، على مختلف الصعد، جنباً إلى جنب مع غيرها من الجماعات الدينية والثقافية ضمن منظومة التنوع السوداني.
وقد تكفي نظرة، ولو عجلى، إلى تعاليم الديانتين، لملاحظة المعنى المشترك بين القرآن الكريم، حيث يسمي الحق عز وجل نفسه ب«السلام» في الآية: «هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام»، وبين الكتاب المقدس حيث «الله هو إله السلام.. منه السلام وإليه السلام وبه السلام». وكذا لملاحظة النسب الروحي الوثيق بين«السلام» و«العمل الصالح» و«العدالة الاجتماعية»، في الحديث الشريف: «ليس منا من بات شبعاناً وجاره جائع» وبين المواعظ الكنسية التي تحض على فضيلة» ألا يجوع واحد فينا بينما الآخر يتخم من الشبع.. ولا ينام أحدنا وهو جائع أو مظلوم». كذلك بين قوله تعالى: «ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين»، وبين بشارة الكتاب المقدس: «طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض». وأيضاً بين تشديد التعاليم الكنسية على أن السلام يعطي سعادة كاملة تكمن في عدالة التوزيع، والرضا، وتشديد التعاليم القرآنية على «العدالة الاجتماعية» كأحد أهم مقاصد الإسلام الكلية، ومن ذلك إدراجها «الإنفاق»، كوسيلة لإعادة توزيع الثَّروة، ضمن عناصر «التقوى»، والمساواة بينه وبين«الإيمان» و«الصلاة» كما في قوله: «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون». وأيضاً جَعْلُ هذا «الإنفاق» من وجوه «الخير» التي يُجزى عليها، بقوله: «يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم» (البقرة 215)«السلام»، إذاً، بجذره الضارب في أعمق قيم «الخير» و«العمل الصالح» و«العدالة الاجتماعية»، هو الجوهر المشترك بين الرسالتين.
على صعيد آخر، ومع إعلاء الإسلام لفضيلة العفو والصفح، وحض المسيحية على «إدارة الخد الأيسر»، فإن هذه القيم ذات الصلة الوثيقة ب«السلام» لا تتحقق بغير استيفاء أشراطها واستحقاقاتها الموضوعية. ف«العفو»، في الإسلام، لا يكون فضيلة إلا بعد توفر شرط «الاقتدار» على نقيضه، وتلك هي دلالة «العفو عند المقدرة». وفي المسيحية أيضاً يطرح القس الجنوب إفريقي ديزموند توتو فهماً عصرياً لفضيلة «الصفح» بإسهامه، ضمن مشروع «الحقيقة والمصالحة»، في اجتراح معالجة الجراح المزمنة في ذلك البلد. فالشرط الأساسي لذلك «الصفح» هو حصول الضَّحايا على اعترافات علنيَّة من جلاديهم، فيما يشبه طقس «التطهر الكنسي»، أو ما يستوفي، في الإسلام شرط تعديل المواقف
وهكذا فإن «السلام»، في الديانتين، لا يكون حقيقياً، ولا مستداماً، بغير توفر أهم أشراطه واستحقاقاته، والتي هي أبعد ما تكون عن مجرد التسليم المجاني بالأمر الواقع!
ولدى الحديث عن «المجموعات المسيحية» السودانية قد ينصرف الذهن إلى الطوائف الثلاث: الكاثوليكية، وهي الأعرق، وصاحبة الكنيسة الأقدم، والبروتستانتية أو الأنجيليكانية، ثم القبطية الأرثوذكسية. ولثلاثتها وجود في الشمال، وفي الوسط، وفي جبال النوبا، مع تمركز الثقل الأساسي للكاثوليكية في الجنوب «سابقاً». كذلك قد ينصرف الذهن إلى كيانات النشاط الاجتماعي المؤسسي، كالنادي القبطي، والمكتبة القبطية، وجمعيات أصدقاء الكتاب المقدس، وما إلى ذلك. لكن، رغم كل الاختلافات المائزة لهذه الطوائف والكيانات، وثمَّة ثلاث حقائق أساسية على هذا الصعيد: أولاها استمرار انسياب خيط الأثر المسيحي، رغم زوال الممالك المسيحية قبل قرون، متخللاً قماشة الثقافات السودانية حتى اليوم، في شتى طقوس الولادة، والزواج، والموت، وخلافه؛ وثانيتها البُعد الاجتماعي والإنساني للأنشطة المؤسسية للطوائف المسيحية، وثالثتها إسهامات رموز المسيحيين السودانيين، منذ مطالع القرن الماضي، في شتى حقول النشاط المدني، السياسي والثقافي والاجتماعي والرياضي. لذا، وفي سبيل ما «يجمع»، لا ما يفرق، وما يجعل المجموعات المسيحية تستعيد دورها في المبادأة بالفعل الإيجابي، فإن من واجبنا، علاوة على إبراز القيم المشتركة في الديانتين، التمهيد لإعادة الاعتبار للحقائق المار ذكرها، تأسيساً على فرضية أن التثاقف الطبيعي ظل دائماً، وحتف أنف السلبيات، رُمانة الميزان في علاقات المسلمين والمسيحيين، مما يجدر الطرق عليه بقوة، كونه الأرسخ في تشكيل بنية الوعي الاجتماعي، والأعمق تأثيراً، من بوابة الثقافة، على «السلام» المستدام و«الوحدة الوطنية» المأمولة، خصوصاً بالنسبة للأجيال المقبلة، إذ لا بديل لذلك، في رأينا، غير الاستسلام لسحائب من اليأس المتراكم بعضه فوق بعض، كقطع الليل البهيم!