المعارضة السورية التي تداخلت أطيافها بين معتدل ومتطرف وليبرالي، يبدو أنها توحّدت أو ذابت عناصرها الصغيرة في التكوينات الكبيرة، والنظام السوري وحلفاؤه المباشرون وغير المباشرين، كلهم يستعدون لمعركة حاسمة في مدينة حلب، والإعلام في انتظار النتائج، وكأن من يحتل حلب سيحسم الصراع في سوريا، وسيتسلم السلطة، هكذا يوهم كل طرف أنصاره، وهكذا يتوهم كل طرف، وفي الحالتين هناك كذبة سياسية وعسكرية يطلقها الطرفان ويصدقانها، متناسيين أن الحسم العسكري لحلب، ولمناطق سوريا كافة، لن يحل الصراع الذي تجذّر في المجتمع السوري ودول الجوار، فحتى لو احتلت (المعارضة)، أو احتلت قوات النظام وحلفاؤه مناطق سوريا كافة، فهذا لن يحسم الصراع الذي لم يكن عسكرياً في يوم من الأيام، فالصراع بقدر ما هو واضح على الأرض، بقدر ما هو ضبابي وغامض في كواليس صناعة القرار، وفي الغرف المغلقة للدول التي تحولت إلى لاعب رئيسي، وفقدت السيطرة الدقيقة على الأوضاع. فمن يعتقد أن هناك دولة قادرة على إصدار أوامر للجهات التابعة لها على الأرض، وتقول تلك الجهات سمعاً وطاعة، واهم كل الوهم، فقد انطلق مارد الفوضى من قمقمه ولن يعود خلال العقد القادم. فهناك تجار أسلحة في المعسكرين، وهناك أجندات لقوى محلية وإقليمية وعالمية يراد تنفيذها، ليس على الأراضي السورية فحسب، وإنما في المنطقة. وما لا يشعر به أصحاب الأجندات أيضاً، وما لا يعلمونه ربما، أنهم يلعبون مع عصابات لا تهتم باستراتيجيات الدول، وإنما تهتم بالإبقاء على حياتها وواقعها ورهانها قدر الإمكان، فقد تحول القتال إلى أسلوب حياة، وتحولت تجارة الآثار والنفط والأطراف البشرية إلى مهن يسترزق منها عشرات الآلاف، وتحولت عمليات الاغتصاب والتحكم بالنساء إلى متعة، فلماذا يحرص هؤلاء على الحل السياسي أو العسكري؟.
ولهذا، على رجالات المعارضة السورية في الخارج أن يتوقفوا عن تعاطي وهمِ سيطرتهم على المقاتلين و(الثوار)، وعلى النظام السوري أن يتوقف عن وهمِ سيطرته على حلفائه أيضاً، فلكل موقف ثمن، وتشعر كل الفصائل المقاتلة، مع النظام أو المعارضة أن لها الحق في جزء من الكعكة الكبيرة، ولا يحق لأحد مصادرة حق الاستمتاع بغنيمته.
إن مختبر هذا الكلام سيكون في المراحل القادمة، حين ينتصر النظام السوري، أو يتوهم انتصاره، ويصطدم بمناطق النفوذ التي سيطلبها حلفاؤه من ميليشيات ودول، أو حين تنتصر المعارضة، أو تتوهم انتصارها أيضاً، وتصطدم بالدول الراعية التي تعتقد أن بإمكانها فرض إملاءاتها.
هذه الصورة العبثية لا يمكن أن يتصورها سوى من يعيش في سوريا، فهو القادر على القول إن سوريا باتت ألف سوريا، وتحكمها قطعان العصابات من الطرفين.
نحن نتحدث عن الكوارث التي ستظهر بعد الهدوء المزعوم، ذاك الهدوء الذي لن يستمر سوى أيام فقط، ستعود بعدها التفجيرات والاغتيالات وعمليات الخطف إلى الازدهار، ولن يعلن أحد مسؤوليته، وسيموت كثيرون نتيجة تصفيات شخصية أو حزبية أو مذهبية أو عقائدية أو ثأرية، وسيتكرر المشهد العراقي بعد احتلال بغداد، سيتكرر في كل مناطق سوريا، وقد تمتد الفوضى إلى لبنان والأردن ومصر وتركيا، إذ لن يقبل أحد الهزيمة، رغم أن الجميع سيكونون مهزومين أمام العالم وأمام أنفسهم.
الصورة قاتمة فعلاً، ولن تنفع انتصارات لنظام أو معارضة في تجميلها، والخشية أن هناك قرارات بالإبقاء على الوضع على ما هو عليه في سوريا، ومحاصرته في المدن والقرى ومناطق النزاع، كي لا تنتشر الفوضى أكثر وتمتد إلى دول الجوار. إنهم يحافظون على الصراع لأن اللاعبين فشلوا حتى الآن في التوصل إلى اتفاقيات لتقاسم الغنائم.
الصورة قاتمة ومستقبلها أكثر قتامة إذا ما استمر التعاطي مع الأزمات على هذا النحو، ولكن الخروج من الأزمة ليس مستحيلاً، إنه يكمن فقط في أن يتحمل كل طرف مسؤولياته بضمير يقظ، ويتوقف عن العبث في مصائر الناس. فالبركان لا يستمر بالهدير طويلاً، وسيجد له متنفساً في لحظة ما، تلك اللحظة هي التي ستطيح بما لم يتوقعه اللاعبون.
39 2 دقائق