ثقافة الإنسان ومعتقداته، وطرق تفكيره هي نتاج تفاعله مع بيئة اجتماعية محددة. فالفرد ينشأ أولاً في منزل، يربى وينمو فيه، ويتعلم من والديه ما هو محرم ومباح، وما هو جائز وغير جائز. يتعلم أيضاً من منزله مختلف أنواع السلوك، ومنظومات القيم الدينية والأخلاقية. ثم ينتقل إلى المدرسة، حيث مجال التفاعل والحوار والتجاذب والتلاقح يأخذ مساحات أكبر وأرحب.
وأهمية التعليم في السنوات المبكرة من حياة الطالب، أنه في حقيقته، بدرجات مختلفة بين طرفين: هما المعلم والمتعلم. والتأثير بينهما متبادل، وإن كان من المفترض أن يكون تأثير المعلم هو الغالب في هذا الحوار.
ومن خلال هذا الحوار، يشارك المعلم والدولة الأهل، في تنمية قدرات الفرد، وتوجيه سلوكه وثقافته، فالمعلم موظف لدى الدولة، التي هي في المبتدأ والخبر، المسؤولة المباشرة عن سياسة التعليم وأهدافه. ومسؤوليتها في هذا السياق، لا تقف عند صياغة الاستراتيجيات وتحديد الأهداف، بل أيضاً في اختيار الأدوات الأكثر فاعلية في خلق المواطن الصالح، وتنمية قدراته ومواهبه.
ذلك يعني أن مهمة الدولة في خلق جيل المستقبل، الجيل الذي يكون قادراً على بناء الوطن، هي مهمة معقدة ومركبة، وذات أوجه كثيرة. فالتعليم ليس هدفه النهائي القضاء على الأمية، بل صناعة فرد قادر على المبادرة والإبداع، والإيمان بالعلم، وبقدرة العقل على الكشف، وبناء مجتمع جديد متماهٍ مع العصر الذي يحياه. مجتمع يرفض التكلس والجمود، ويسفه البدع والخرافة.
لكن تأهيل الفرد، لتحمل مسؤولياته في بناء الوطن، لن يكون ممكناً من غير تربية وطنية، تتجانس مع التطور التاريخي، حيث الوطن هو المحور، وليس الجماعة. لقد خلق التطور التاريخي هذا الواقع، بهزيمة البنيات الاجتماعية السابقة، قبلية وعشائرية وطائفية، وأية انتماءات أخرى، سابقة على انتصار فكرة الوطن. ولذلك فإن برامج التربية الوطنية، لابد وأن تكون متجانسة مع هذا التحول، ومعبرة بصدق عنه.
إن التمييز بين الانتماء للوطن والانتماء لجماعات متخيلة ليس اعتباطاً، بل شرط أساسي للعبور، من الأزمة الراهنة التي تمر بها أمتنا إلى مرحلة أخرى، مرحلة لا يكون فيها مكان للتطرف والإرهاب.
قلنا إن العملية التربوية، تقتضي استراتيجية مركبة ومعقدة، وبأبعاد عديدة. فهي تستوجب أولاً إعداد المعلم باعتباره العنصر الأكثر تأثيراً في الترويج للخطة الوطنية التربوية. وهذا الإعداد لا ينبغي أن يكتفي بالإعداد الأكاديمي، بل ينبغي أن يتصل بتأهيله ليكون قادراً على التبشير بمبادئ وأهداف المواطنة، ببعدها الإنساني الواسع. وليس يكفي أيضاً أن يكون مستوعباً لهذه المبادئ، ومؤمناً بها، بل يجب أن يمتلك القدرة والجاذبية على بثها، وتمكين الطلاب من استيعابها، ونشرها في المجتمع.
إن ذلك يرتب على الدولة، وبشكل خاص مؤسسة التعليم، اختيار المدرسين من نمط خاص، نمط قادر على تحقيق الأهداف المرجوة من برامج التربية. كما يقتضي الزج بالمعلمين في دورات تدريبية وتأهيلية متتابعة، نوعية ومكثفة للتأكد من استيعابهم لبرامج التأهيل الوطني، والتعايش مع روح العصر.
على أن ذلك وحده لن يكون كافياً، فالطالب لا يكتسب ثقافاته وتقاليده من خلال المدرسة وحدها. فهناك المنزل، وهناك الأقران والمجتمع. وجميعهم مؤثر في تكوينه وسلوكه. وما حدث في السنوات الأخيرة، من تغول لظاهرة التطرف والإرهاب، لا يمكن رده إلى ضعف البرامج التربوية فقط، بل إن كثيراً منه هو نتاج بيئة عربية واسعة، أمست بفعل ظروف عديدة، حاضنة لهذه الظواهر. ومحاربة الإرهاب، على هذا الأساس، تقتضي وعي أسباب وجود هذه الحواضن، ومواجهة حقيقية له في جميع مرتكزاته وخنادقه وعدم الاكتفاء بجوانب، وإغفال أخرى.
ولأن الدولة هي التي تضطلع بالأساس بمكافحة الإرهاب، وإن كان على المجتمع أن يكون رديفاً لها في تحقيق ذلك، فإن من المهم أن تكون العلاقة بين المدرسة والمنزل والمجتمع علاقة تكاملية، وتصب جميعها في المواجهة الوطنية الكبرى لهذه الظاهرة المقيتة. بمعنى آخر، لن يكون كافياً أن يقتصر أثر التربية الوطنية على المدارس، بل لابد من تبني استراتيجية عملية واضحة، لخلق بيئة اجتماعية مناهضة للإرهاب والتطرف. وشرط ذلك هو تغليب مفهوم المواطنة، وجعلها ثقافة عامة تتسلل إلى مكونات المجتمع العربي كافة. وأساس ذلك تعميم ثقافة التسامح، ونبذ الكراهية، وتغليب الهوية الجامعة على ما عداها من الهويات الصغرى.
ولن يكون ذلك ممكناً، إلّا بتحديد حقوق وواجبات كل فرد من أفراد المجتمع ومقابلة استحقاقات الناس. والارتقاء بالتربية الوطنية، ووعي الجميع بمخاطر الإرهاب على التنمية والاستقرار، وتقدم الأمة.
الطالب لا يكتسب ثقافاته وتقاليده من خلال المدرسة وحدها. فهناك المنزل، وهناك الأقران والمجتمع
36 3 minutes read