من المبكر اعتبار الانقلاب الذي شهدته حلب تحولاً في مسار الحرب المفتوحة في سورية. ومن الخطأ التقليل من أهمية ما حصل في المدينة والرسائل التي أطلقتها عملية كسر الحصار في اتجاهات عدة.
أول الرسائل أن إرادة القتال لدى المعارضة المسلحة لا تزال عالية جداً خصوصاً لدى فصائلها الإسلامية والجهادية. لكن من التسرع الاعتقاد بأن معركة حلب الأخيرة تعني أن المعارضة قادرة على حسم الحرب على امتداد الخريطة السورية. كان من التسرع أيضاً الاعتقاد بأن الجيش السوري بمساعدة الميليشيات الحليفة له قادر على توظيف التدخل الجوي الروسي لحسم المعركة على كامل الأرض السورية.
وجهت معركة حلب رسالة قاسية إلى الجيش السوري الذي كان التدخل العسكري الروسي أعطاه قدراً من الأرجحية في المواجهات. الرسالة موجهة أيضاً إلى الميليشيات الحليفة لإيران التي تجد نفسها أمام خيار تعميق انخراطها في نزاع لم يعد ممكناً إنكار طابعه المذهبي.
كشفت معركة حلب الأخيرة أن الفصائل الإسلامية هي العمود الفقري للمعارضة السورية المسلحة وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تعميق التورط الروسي ومضاعفة الابتعاد الأميركي. نجاح معركة كسر الطوق الذي كان مفروضاً على أحياء المعارضة في حلب يعطي «جبهة النصرة» في حلتها الجديدة فرصة التسرب أكثر إلى نسيج المعارضة المسلحة والتمتع بقدر من الجاذبية لدى أعداء النظام في الداخل.
تفيد عملية كسر الحصار بأن الحرب في سورية طويلة جداً. وهناك من يعتقد بأن معركة حلب قد تدفع النظام إلى الاكتفاء بالدفاع عما يمكن الدفاع عنه. وهذا يطلق بالتأكيد شبح التقسيم حتى لو رد الجيش وحلفاؤه بعملية تعويض في الغوطة أو داريا أو جسر الشغور.
وجهت معركة حلب رسالة قاسية إلى فلاديمير بوتين الذي لا يستطيع أن ينسى أن بلاده ستطفئ في نهاية الشهر المقبل الشمعة الأولى لتدخلها العسكري في سورية. في الحروب المعقدة لا بد من الالتفات إلى جنرال شديد الخطورة إنه الجنرال وقت. أخطر ما يمكن أن توحي به عملية كسر الحصار هو أن روسيا تتحول تدريجياً إلى مجرد طرف محارب في نزاع طويل.
حين تتدخل دولة بحجم روسيا في نزاع من هذا النوع تتوهم أنها قادرة على الحسم. تعتقد بأنها قادرة على فرض وقائع ميدانية جديدة ترغم المعارضة على تقليص مطالبها تفادياً لهزيمة ساحقة. نجح التدخل الروسي في طي صفحة إسقاط النظام لكن لا شيء يوحي بأن النظام قادر على استعادة كامل الأراضي السورية مع احتفاظه برموزه وخياراته.
الإقامة الطويلة في سورية المفككة المشتعلة لا تعطي روسيا صورة القوة العظمى. والانطلاق من قاعدة حميميم لتدمير «البيئة الحاضنة للإرهابيين والتكفيريين» سيغرق صورة روسيا في دم المدنيين وركام المستشفيات. والاكتفاء بدور المحارب لسنوات قد يعطي بوتين صورة حارس التقسيم أو حارس الأقليات ولكل من الدورين ثمن غير بسيط.
يتفق الغرب مع بوتين على ضرورة إلحاق الهزيمة بالإرهابيين والتكفيريين. لكن الغرب يرى أن شرط الانتصار هو إبطال جاذبية المتشددين بطرح حل يتضمن تغيير أبرز رموز النظام لإنقاذ النظام ومؤسساته. وواضح أن بوتين لم ينجح في إقناع النظام بتقبل فكرة الانتقال السياسي ولم ينجح أبداً في تسويق هذه الفكرة لدى إيران. موقف الدول الإقليمية شبيه هنا بموقف الدول الغربية لجهة اعتقادها بأنه يستحيل إنهاء الحرب بصيغة تنقذ النظام ورموزه معاً.
كان بوتين يستعد للتمتع بموعده غداً مع ضيفه رجب طيب أردوغان. اعتذر السلطان وها هو يأتي لترميم العلاقات الاقتصادية والسياحية. إنه منهمك الآن بمطاردة أعداء الداخل. ضاعفت محاولة الانقلاب شكوكه في حلفائه. اختار المشاكسة مع أميركا والأطلسي والاتحاد الأوروبي. ثم أن أكثر ما يمكن أن يطلبه في سورية هو شيء من الرحمة لمناطق المعارضة المحاصرة في حلب وخفض التعاطف مع الأكراد. يصعب أن يكون السلطان لاعباً إقليمياً فاعلاً إذا كان محاصراً في حلب.
لم تطل متعة القيصر. الانقلاب الذي شهدته حلب يجدد شكوكه بنوايا ضيفه. الانقلاب يضعه أمام خيارات صعبة. يمتحن صورته وصورة بلاده. القصة شديدة التعقيد. لماذا يحق لإيران أن تكون صاحبة الكلمة الأخيرة في بغداد ولا يحق لتركيا أن تكون صاحبة دور في حلب؟
أفسدت حلب متعة قيصر المنشطات. رممت شيئاً من معنويات السلطان الزائر. باراك أوباما خبيث. قلب الأمر طويلاً. لا يريد حكم الأسد. ولا يريد هذه المعارضة التي يتقدمها الانغماسيون. اكتفى من أضرار سورية بالشيب الذي دهم رأسه. ابتعد تاركاً لبوتين متعة الانزلاق في حقول الجمر.
هذا موسم الألعاب الأولمبية. انتزع الشعب السوري باكراً الميدالية الذهبية في فئة أكثر الشعوب عذاباً بعد الحرب العالمية الثانية. هذا فظيع.