كانت الجنازتان، العسكرية والشعبية، اللتان أقامتهما مصر لتشييع الحائز جائزة نوبل في الكيمياء الدكتور أحمد زويل، لائقتين بمقام هذا العالم الكبير الذي رحل عن هذه الدنيا بعيداً عن دياره، وفي خلده مشروع علمي كبير يريد توظيفه للنهوض بالبحث العلمي في مصر والعالم العربي، وهي مهمة شاقة تلقي مسؤوليتها على أمة بأسرها، وليس على رجل واحد، مهما أوتي من آيات الفطنة والنبوغ.
بفعل الوفاة انتهت مسيرة أحمد زويل، فيما ظلت شعلة الطموح تنتظر من يتلقاها من بعده. وبين مشاعر الحسرة والرغبة في التفاؤل بمستقبل أرحب يطرح رحيل مكتشف «الفيمتو ثانية» في مجال الكيمياء قضية حساسة تتعلق بواقع التعليم والمعرفة في العالم العربي، والمدى الذي يمكن أن يتحمله هذا القطاع الحيوي ليكون رافعة التحديث والتطوير، لا سيما في ضوء تزايد أطروحات الجذب إلى الخلف، بينما تواصل قافلة التقدم الكونية سبر أغوار المجهول مكتشفة عوالم غريبة في شتى المجالات من شأنها أن تذلل الصعاب أمام الإنسان، وتمنح حياته معاني جديدة، وهذه هي مهمة العلم ورسالة العلماء، أما من يفعلون عكس ذلك فهم يُنظّرون لإذلال شعوب بأسرها حتى تظل رازحة في الجهل والتخلف، وتبقى مطية للأمم الأخرى، فلا تقوى على الحياة بكرامة، ولا تستطيع مجابهة عدو، أو كسب صديق. ولا يحتاج البرهان على الحالين إلى ضرب الأمثال، بيد أن التشبث بالعلم وتكريم رجاله، أحياء وأمواتاً، والاستفادة من إرثهم هي الضامن للنهضة والحافز لتحقيق كل تطلعات الأمة، بما فيها من مناعة وسيادة وقوة وهيبة.
مرت أجيال وراء أجيال، والعرب والمسلمون يقاومون من أجل أن يكون لهم موقع بين الأمم الحية، ورغم أنهم كسبوا معركة التحرر الوطني، وتخلصوا من الحقبة الاستعمارية، إلا أنهم في معركة كسب أسباب المعرفة لم يحققوا الشيء الكثير، مع تسجيل تفاوت بين بلد وآخر. ولم يكن واقع التخلف الذي عاشوه طويلاً هو المسؤول عن هذا التأخر، وإنما أنانية الأمم الأخرى، ورغبتها في احتكار كل المعارف والعلوم هي العامل الأكبر. فكم من عالم عربي نابغة في ميدانه، وزويل أحدهم، تألق في الغرب ولم يتيسر له أن يفعل الشيء نفسه في بلاده، بسبب البيروقراطية المحلية، ثم لأن ذلك الغرب المتقدم لا يسمح لهؤلاء العلماء بنقل أدوات البحث خارج نطاق مختبراته، وهي معضلة كبيرة يتطلب التغلب عليها كثيراً من التصميم والإرادة والعزم على التغيير، مهما كانت العراقيل.
عام 2012 قرر العالم المصري الراحل تأسيس «مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا» في القاهرة، وهي مشروع جبار من حيث أهدافه وطموحه، ويسعى إلى تركيز شعلة مضيئة في المنطقة يتوقع لها أن تكون نواة لصرح علمي متقدم سينتج أجيالاً من الباحثين يكونون ثروة لا تضاهيها ثروة. وبعد الرحيل، تعهدت الحكومة المصرية بدعم هذا المشروع ورعايته عرفاناً للعالم الراحل، وعوضاً له تقديراً لإنجازاته ومسيرته الزاخرة، وقد يكون من حسن الفأل أن، عملاقاً آخر، هو جراح القلب العالمي مجدي يعقوب سيتولى إدارة «مدينة زويل»، عساها تكون منارة كما تصورها مؤسسها وشاطره في ذلك الحلم نخبة من العلماء.
35 2 دقائق