تعيش الدول القطرية في الوطن العربي منذ فترة السبعينات من القرن الماضي، تحديات الصراعات الداخلية، وأشكالاً متعددة من الحروب الأهلية التي تهدد كيانها ومستقبلها الوطني والقومي، نتيجة لتضافر عوامل داخلية وخارجية تعمل على إضعاف النسيج الاجتماعي، وعلى تشجيع الهويات الجزئية القاتلة في مجموع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فمن الحرب اللبنانية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، مروراً بالاضطرابات الداخلية في الجزائر، والصراع المذهبي والطائفي في العراق، والاقتتال الداخلي في سوريا واليمن وليبيا، وصولاً إلى تصاعد حالات التطرف والعنف في مصر؛ نجد أن الوطن العربي يتجه نحو وضعية مأساوية يمكن القول إنها باتت تقترب أكثر فأكثر من حالة حرب أهلية شاملة، تعمل بشكل جلي ولا لبس فيه، على تقويض سلطة الدولة الوطنية وتسعى إلى إحلال وضعيات من الفوضى البنيوية العارمة، التي تضيع في خضمها قيم المواطنة وفضائل الإيمان المشترك بالانتماء إلى الوطن وإلى الأمة.
يجمع أغلب المنظّرين في سياق حديثهم عن الحروب الأهلية، على أن السلطة، وبصرف النظر عن طبيعتها، هي أفضل من عنف الجميع ضد الجميع ، ويسعى هذا النوع من الاجتهاد النظري إلى التذكير في حالة انتشار الأزمات، أن السلطة القائمة على سيادة الدولة تكمن وظيفتها بالدرجة الأولى في منع الأفراد من اللجوء إلى استعمال العنف، بل إن الدولة لا تأخذ كل دلالاتها ومعانيها العميقة إلا من خلال احتكارها لمبدأ استعمال العنف المادي المشروع داخل المجموعة الوطنية، وفي مواجهة الأعداء الخارجيين. ويأتي القسم الأكبر من أسباب تنامي ظاهرة العنف والحروب الداخلية في العالم من التصورات والتنظيرات المناوئة التي تسعى إلى إعادة النظر في حق الدول في احتكار العنف، وبخاصة بعد انهيار حائط برلين وتراجع منطق توازن الرعب القائم على امتلاك القوة النووية من طرف القطبين الكبيرين، الأمر الذي أفضى إلى انتشار غير مسبوق للصراعات المحلية والحروب العرقية والمواجهات ما بين الأقليات، وإلى تنامي العنصرية بشكل غير مسبوق.. إلخ؛ ويمكن القول إن كل هذه التمظهرات والتجليات العنيفة تمثل أشكالاً متعددة من الحروب الجزيئية التي تعمل على تفتيت الدول الوطنية من الداخل بدعم من الاحتكارات العالمية الكبرى والمنظمات الدولية غير الحكومية، التي تسعى إلى إقامة عدالة بديلة وموازية لعدالة الدول الوطنية، وتذهب هذه المنظمات إلى حد اتهام الدول والأنظمة السياسية بالتواطؤ سياسياً مع من يمارسون العنف ضد الأفراد في الحالات المرتبطة باحتكار العنف من طرف الدولة. وقد أسهم انتشار الحروب الأهلية وتراجع قوة الإمبراطوريات العالمية الكبرى، في هدم وتقويض الهويات الجماعية والفردية وفي إقصاء المرجعيات الثقافية والحضارية الجامعة دفاعاً عن قيم كونية مزعومة مجردة وجوفاء.
وبناءً على هذه الحالة النموذجية التي بدأت تتشكل بفعل ممارسات وتنظيرات الكثير من الفاعلين الدوليين والمحليين الذين يدافعون عن أهداف مشبوهة، فإن الدول العربية باتت تواجه أخطاراً كبيرة وغير مسبوقة، من شأنها أن تنقل العرب من حالات الحروب الجزيئية السريعة الانتشار إلى حالات الدول الافتراضية المعمّمة التي يحكمها أمراء الحرب باسم العرق أو الدين أو المذهب أو العشيرة. ونستطيع أن نزعم أن حالات الصراع الداخلي التي تشهدها الكثير من الدول العربية والتي يُتوقع تضاعفها واتساع مداها، هي أخطر بكثير من نموذج الحرب الأهلية اللبنانية، التي لم تكن أكثر من محاولة لإعادة بناء للتوازنات الداخلية للسلطة اللبنانية، بينما تهدف الصراعات الحالية إلى تدمير سلطة الدولة الوطنية وإلغاء الآخر المختلف، وتدمير أسس ومقومات العيش المشترك التي ميّزت المجتمعات العربية طيلة قرون من الزمن.
يجب أن تكون لدينا الشجاعة الكافية لكي نعترف في سياق هذا التحليل، بأن الدول القطرية في الوطن العربي تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في انتشار هذه الصراعات والحروب، لأنها عجزت عن بناء مؤسسات عصرية قادرة على مواجهة تحديات الحداثة والعصرنة، واعتقد الكثير من نخبها السياسية أنه بالإمكان الاعتماد على أنصاف الحلول من أجل ضمان استمرارية الدولة الوطنية. ويتضح من خلال التجارب السياسية السابقة أن ضعف المجتمع المدني في الوطن العربي كان له دور سلبي في مواكبة التطورات المفاجئة التي حدثت في أغلب الدول العربية، كما أسهم هذا الضعف المزمن في التأثير سلباً في المؤسسات السيادية للدولة القطرية، ومن بينها المؤسسة الأمنية التي بدأت تتآكل من الداخل، بسبب غياب مشروع مجتمع وطني جامع يعمل على تقويتها وتحصينها من الداخل في مواجهة كل التأثيرات المجتمعية الضارة التي ساهمت في إيجاد تنظيمات وجماعات لا يؤمن أفرادها بأهمية وجدوى الكيان الوطني ولا بدوره في تحقيق التنمية والاستقرار والمشاركة السياسية.
نعتقد في هذه العجالة أن أحد الحلول المستعجلة التي يفترض أن تحرص الدول العربية على اعتمادها تتعلق بحسم نموذج مشروع المجتمع القادر على استيعاب كل المكونات الفسيفسائية للدولة الوطنية، ومن الضرورة بمكان أن تقتنع كل الأطراف أنه لم يعد هناك مجال لبناء مجتمعات منغلقة ولا لتأسيس دول شمولية، وأن الحل يجب أن يكون منطلقاً من التصورات المتعلقة بالدولة المدنية؛ كما يفترض أن تشجِّع الكيانات الوطنية ثقافة الحوار والقبول بالحق في الاختلاف حتى يتمكن المجتمع من معالجة مشكلاته وتناقضاته من خلال اعتماد حلول سلمية وتوافقية تسمح للمكونات التي تؤمن بحتمية تأسيس وبناء الدولة الحديثة، من التعبير عن رؤاها وتصوراتها بعيداً عن الخيارات المتطرفة والعنيفة. وبالنسبة إلى جماعات الإسلام السياسي التي تمثل التحدي الأكبر للدولة الوطنية، والتي تسببت في القسم الأكبر من النزاعات والحروب الأهلية في الوطن العربي، فإنه يجب البحث في سياق التعامل معها عن حلول كاملة وجريئة تعتمد على إعادة بناء منظوماتنا الفقهية والثقافية والتعليمية، وفق منهجية عصرية تسمح باستيعاب كل التناقضات الداخلية للمجتمع، اعتماداً على أسلوب حقوقي وقانوني عادل وعلى ممارسة اجتماعية ملزمة وشاملة تُجرِّم الاعتداء على قناعات ومعتقدات الآخرين، لأن المجتمع الذي لا يؤمن بالحق في الاختلاف ينتهي به المطاف – إن آجلاً أو عاجلاً- إلى التفتت والانفجار.
نقلا عن صحيفة الخليج