في سنتي الأولى من دراسة الفيزياء، طرحت سؤالاً بدا غبياً وساذجاً في نظر زملائي. حينما قاطعت انسيابية المحاضرة متسائلاً: هل لنا أن نرصد بالصورة الملونة الحركة الدقيقة للذرات؟!. وكيف تتفاعل فيما بينها وتتصرف؟. وهل لنا أن نرى كيف تتكون الجزيئات المختلفة، جراء تلك التفاعلات الكيميائية؟. ضحك الطلبة بكل ضجيج، ورموني بسيل من النظرات الشماتة اللاذعة. فكيف لطالب فيزياء، ألا يعرف أن العالم حد تلك اللحظة، لم يكن قادراً على رؤية الذرات والجزئيات، التي لا يتعدى حجم مليارات منها رأس دبوس. فكيف له أن يرصدها، ويصورها بالألوان وهي تجوس فضاء صغيراً في زمن متناهي الدقة. الدكتور أوقفهم بصرامة، وخنشر في وجوههم، ثم رمقني إبتسامة لن أنساها ما حييت: لا عليك. من هنا يبدأ العلم. من التخيل الجريء، والطرح المجنون. الخيال هو الأصل، وهو رائد الإكتشافات المستحيلة، غير المتوقعة، وغير الممكنة في نظر غالبية الناس. ثم توجه الأستاذ لنا جميعاً: للأسف هذه التقانة أو التكنولوجيا غير متاحة الآن، وهي تنتظر وتنادي من يقدمها للحياة. ومن يستطع أن يخترع جهازاً يصور ويرصد التحركات الذرية فائقة السرعة، فسينال جائزة نوبل دون أدنى شك. بعد ثمان سنوات من تلك المحاضرة البسيطة، أي في 1999 سرني نبأ عظيم أن عالماً عربياً مجداً طموحاً، غادر بلده مخصباً بالخيال والتخيل، ومحملاً بهاجس الإنجاز والخير، يقدم للإنسانية تقانة مبتكرة ذكية باستخدام أشعة الليزر، هذه العملية قادرة على رصد وتصوير التفاعلات الكيميائية. هذ العالم هو المصري أحمد زويل. من يستعرض حياة زويل يجده لم يخلع عن كاهله ثوب الباحث الحصيف المثابر المتعطش للمزيد، ولم يرم من رأسه ديدن الخيال والتخيل، اللذين يسبقان بالضرورة كل تجربة واختراع. أحمد زويل باغت العالم، وقدم لنا هذه التكنولوجيا الجديدة لرصد التفاعلات الذرية الدائرة في الفيمتو ثانية (جزء من مليون مليار جزء من الثانية). على هذه التقنية تبنى الكثير من الإختراعات والتطبيقات. وكأنه يقول: ثمة عوالم أخرى غير عالمنا الكبير هذا، الذي نتبجح به. عوالم منطوية فيه، يتخللها نشاط أكبر ملايين المرات من نشاطنا وتفاعلاتنا. تتم أحداثه الكثيرة والهامة في جزء لم نكن نتخيله، يكمن في هذه الثانية الزمنية الواحدة، التي توازي طرفة عين أو اثنتين. العرب الذين يهدرون مليارات الساعات من حياواتهم في اللا فائدة والثرثرة والفراغ واللاجدوى. جاء منه أحمد زويل وقدم للإنسانية هذه التقنية التي تحتفي بالزمن المتناهي الصغر، وترصد خباياه وتفاعلاته. رحم الله زويل. وجزاه خيرا عما قدم للحياة والعلم. وربما نحتاج أن ندرس سيرة هذا الرجل الفذ والعالم الحصيف بشكل يستنطق عبقريته وجده.