لم يعد سراً أن خرائط جديدة تُرسم للمنطقة. ويمكن هذه الخرائط أن تشمل حدوداً سياسية جديدة سيتم وضعها على ضوء ما ستتمخض عنه الحروب المشتعلة حالياً في العراق وسورية. ويمكن أيضاً أن تكون الخرائط الجديدة على شكل مناطق للنفوذ بين دول الجوار العربي التي ستستغل حال الوهن العربي العام لتحقيق امتدادات جيوسياسية داخل الدول العربية التي تمزقها الصراعات، وتلك التي تعاني بوادر ضعف يمكن تعميقها من طريق الضغط على نقاط الضعف فيها، اقتصادياً وعرقياً وطائفياً.
ومن السيناريوات المحتملة في هذا السياق، اتفاق تركيا وإيران على تقاسم المنطقة من خلال تحديد مناطق نفوذ لكل منهما، إذ تصاعدت الأطماع الإقليمية للدولتين خلال السنوات الماضية، وأصبح لكل منهما وجود سياسي وعسكري قوي من خلال تدخلات عسكرية مباشرة وقوى وجماعات سياسية وعرقية تدين لإحداهما أو للأخرى بالولاء، وتتحرك داخل دولها وفق ما تمليه المصالح التركية أو الإيرانية وليس وفق المصلحة الوطنية. ويتم ذلك تحت عناوين طائفية غالباً، إذ يُستغل التشيّع السياسي والتسنن السياسي من جانب إيران وتركيا، لتحقيق مصالح قومية لكل منهما.
تلتقي مصلحة تركيا وإيران في أن كل ضعف واختراق تحققه أي منهما في إحدى الدول العربية يصبّ في مصلحة الأخرى، وهما تبدوان أقرب إلى فكرة تقاسم النفوذ منهما إلى الصراع أو الصدام، بحيث أن أي مكسب تناله إيران أو تركيا لا ينتقص من مكاسب الأخرى ولا يخصم من رصيدها، هذا إن لم يُعظِّم من فرصها.
لدى إيران وتركيا تاريخ طويل من إبرام اتفاقات ومعاهدات أساسها هو تقسيم مناطق النفوذ بينهما، وكانت أراضي الدول العربية مسرحاً لهذا التقسيم الذي يجيء على حسابها، باعتبارها كانت الطرف الأضعف الذي تُفرَض عليه الحلول. وقد عُقدت مثل هذه المعاهدات حينما كان الصراع العثماني – الفارسي، خلال الدولتين القاجارية والصفوية، على أشده، والتنافس بين الإمبراطوريتين في أوجه.
وقع الجانبان في العام 1555 اتفاقية أماسيا، وهي أول اتفاقية رسمية بين الدولتين الصفوية والعثمانية، إذ اتفق السلطان سليمان القانوني والشاه الإيراني طهماسب الأول على تعيين الحدود وتقاسم المناطق المتنازع عليها بين الدولتين. فتم تقسيم كردستان في مناطق شهرزور وقارص وبايزيد. كما حددت المعاهدة حدود قواطع بغداد وتبريز وأذربيجان.
وتوالت بعد ذلك اتفاقات ومعاهدات، مثل معاهدة قصر شيرين في العام 1639، ومعاهدة أرضروم الأولى في العام 1823، والتي أعطت إيران مدينة المحمرة والأراضي الواقعة على الضفة الشرقية من شط العرب. وشهدت هذه المعاهدة دخول إنكلترا طرفاً فيها، ثم جاءت معاهدة أرضروم الثانية في العام 1830، وشهدت أيضاً حضوراً لإنكلترا وروسيا. وشهد العام 1913 اتفاقاً على وضع الحدود بين البلدين. وإذا كانت هذه المعاهدات قد عقدت في ظل أجواء الصراع والحروب والمواجهات الحادة، فإن التعاون بين إيران وتركيا في الوقت الحالي يزيد من فرص اتفاقهما على تقاسم مناطق النفوذ من دون عناء.
وحضور إنكلترا وروسيا في معاهدات القرنين التاسع عشر والعشرين نموذج لما يمكن أن يحدث اليوم، ويُمكن الاتفاق التركي – الإيراني المحتمل أن يحظى برعاية ومباركة من القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تمارس دوراً مثيراً للريبة خلال السنوات الماضية، وتصب سلوكياتها في مصلحة إضعاف الدول العربية والخليجية، سواء في تعاملها مع ملف جماعة «الإخوان المسلمين» التي تحظى برضا ودعم أميركيين، أو في تشجيع القوى التي تتآمر على استقرار الدول العربية كما هي حالها مع قوى التخريب في البحرين، أو في التخلي عن الحلفاء العرب لمصلحة الاتفاق مع إيران، وإبرام اتفاقات من شأنها أن تفتح شهية إيران على مزيد من التدخلات في الدول العربية ومحاولة فرض الهيمنة.
التقارب الإيراني – التركي الذي يمهد للاتفاق على تقاسم النفوذ يبدو ملحوظاً في مجالات عدة، ففي المجال الاقتصادي وصلت قيمة التبادل التجاري بين إيران وتركيا إلى 35 بليون دولار وفقاً لما أعلنته وكالة «مهر» الإيرانية للأنباء في شباط (فبراير) 2016. وفي 5 آذار (مارس) الماضي، قال رئيس الوزراء التركي السابق داود أوغلو في منتدى الأعمال التركي في طهران، إن أنقرة تسعى إلى زيادة حجم التبادل التجاري مع إيران، ليصل إلى 50 بليون دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة.
فضلاً عن ذلك فإن تركيا وإيران استطاعتا التعامل بقدر من البراغماتية كي تتجاوزا بعض المشاكل الخلافية في ما بينهما تجاه عدد من الملفات، مثل الملف السوري الذي يدعم كل منهما فيه طرفاً مختلفاً، كما أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حرص على زيارة إيران في نيسان (أبريل) 2015، وهي الفترة التي ظهرت فيها بعض التحليلات التي تشير إلى تقارب خليجي – تركي مع بدايات «عاصفة الحزم» في اليمن، في محاولة منه لإقناع إيران بأنه حريص على مصالح تركيا معها. وربما ساهم تملص أردوغان من المشاركة في «التحالف الإسلامي» في أواخر العام 2015 في تقليل نقاط الخلاف بين تركيا وإيران أيضاً.
إن نوايا الهيمنة على المنطقة العربية تنطلق الآن من مشروعي إيران (الحاضن الشيعي) وتركيا (الحاضن السُني)، وكلاهما يشكل خطراً على الدولة الوطنية العربية، ويزيد عوامل الضعف القائمة في الوقت الحالي. ويبدو الاتفاق على تقاسم النفوذ بين إيران وتركيا أقرب إلى سلوك الدولتين، بعدما توصلتا إلى أن إنهاك بعضهما بعضاً في حروب وخلافات، لن يكون مجدياً. ومما يزيد من خطورة هذين المشروعين غياب المشروع العربي الذي يمكنه أن يقاومهما، واختراق كثير من الدول العربية من جانب إيران وتركيا، وتناقض الأهداف وتضاربها بين الدول العربية، وهو ما سيلقي بظلاله السلبية عليها جميعاً. وما لم تسارع هذه الدول إلى تنسيق جهودها في المرحلة المقبلة للتصدي للمشاريع التي تأتي من خارج المنطقة العربية، فإنها ستدفع أثماناً كبيرة من أمنها واستقرارها ومكانتها الإقليمية والدولية.
الخوف من إيران قد يرفع من أسهم أردوغان عند بعض القوى العربية، وتقوم فصائل من الإسلام السياسي وتحديداً تنظيم «الإخوان المسلمين» داخل الدول العربية على تسويق تركيا بوصفها الحاضن السني في مواجهة إيران الشيعية، وهو ما يعني مزيداً من إضعاف الدول العربية واختراقها، وتمهيداً لعودة قرون الجاهلية العثمانية بظلاميتها وتعصبها القوي، والأوهام الإمبراطورية التي بُعثت من جديد. ويجب التصدي بكل الحزم لهذه الدعاوى على المستويين السياسي والفكري، وإيضاح تهافت الأسس التي تقوم عليها، وهناك جهود مثل التحالف العربي الذي أثبت فعاليته في وقف التمدد الإيراني في اليمن، والتحالف الإسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية، يمكن البناء عليها والانطلاق منها.
واجب الدول العربية هو رفض كل مشاريع الهيمنة، سواء أكانت تركية أم إيرانية أم إسرائيلية أم حتى أممية، وبلورة المشروع العربي واتخاذ خطوات عملية لتنفيذه، لأن ما سيجري إقراره في المرحلة الحالية يمكن أن يستمر لفترة طويلة، كما حدث خلال رسم الخرائط العربية في اتفاقية «سايكس – بيكو» قبل قرن من الزمان. ولا يزال الوقت متاحاً لإحباط كثير من التدابير التي يُراد لها أن توضع موضع التنفيذ على حساب سيادة الدول العربية ومستقبل شعوبها، لكنها لو وجدت طريقها إلى أرض الواقع فسيكون تغييرها أقرب إلى المستحيل، وربما سيمر قرن آخر قبل أن تُتاح الفرصة لإصلاح ما تسببت فيه من أضرار.
والغريب أننا وسط كل هذه السيناريوات الخطرة نلحظ تلكؤاً عربياً في اتخاذ خطوات تحمي المنطقة، وتجنّبها الوقوع تحت هيمنة مشاريع الآخرين ومخططاتهم. وكم كنا نتمنى أن تنحو الجامعة العربية، سواء في بياناتها أم خطواتها العملية، منحى دول الخليج العربي في تعاملها مع أزمة اليمن وإنقاذه من مخطط الحوثيين الذين تدعمهم إيران، وكم تطلعنا إلى أن تتبنى قمة نواكشوط قرارات تساهم في تفعيل التحالف العربي أو التحالف الإسلامي، بوصفهما أفضل الحلول لمواجهة الخطر المحيط بنا، ولكن ذلك كلّه لم يكن، ما يعني ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه للمشروع الإيراني – التركي، وتلك هي الطامة الكبرى.