لا أحد في عالم الصراع، أو اللا صراع، اليوم ، لا يعرف المدى الذي وصل إليه ضعف خصمه، وفي الوقت نفسه لا يخفي ضعفه هو نفسه أو على الأقل لا ينكره
اعترف أنني كثيراً ما صرت أقف حائراً أمام قرارات عديدة صادرة في شؤون السياسة الخارجية، وأكثر كثيراً وقفاتي الحائرة أمام مداولات وقرارات مؤتمرات دولية ، وبخاصة أمام السلوك غير المعتاد أو المألوف لمجلس الأمن الدولي. أقول غير المألوف ، لأنه بالنسبة لي ولأبناء جيلي يبدو أقل كفاءة وفاعلية وجدية من نموذج مجلس الأمن الذي يتدرب عليه الطلبة في كثير من الجامعات. بل لعلني لا أذهب بعيداً إذا أعلنت أنني كتلميذ علاقات دولية لم أعد أعير الأمين العام للأمم المتحدة الراهن أي أهمية. فالرجل أهان منصبه أكثر من مرة، وهو المنصب الذي احتله في وقت من الأوقات داغ همرشلد.
لست وحدي على كل حال الذي لا يصدق أنه في وقت قريب جداً سوف يدخل البيت الأبيض ،رئيساً لأمريكا، رجل بمواصفات دونالد ترامب. صحيح أننا عشنا موقفاً مماثلاً قبل عقدين حين حل على البيت الأبيض جورج بوش الابن، وقتها لم نصدق. ولكن أذكر أننا رصدنا عدداً من التغيرات الدولية أقنعتنا بأنه الاستثناء الذي لن تسمح الطبقة السياسية الأمريكية بتكراره. الآن يتضح لنا، أو لي على الأقل، أن بوش الابن كان الإنذار الأول، وأنه سوف يتكرر إذا لم تتوقف حدة التغيرات الدولية ولم تنتبه الطبقة الحاكمة الأمريكية إلى أن الوعكة التي أصابت أمريكا تتدهور في اتجاه أن تصير أزمة حادة.
ألم يكن مفاجئاً تطورات وأعمال قمة الأطلسي التي انعقدت في بولندا أن نرى الحلف ، بينما هو يقرر أن روسيا ما زالت تستحق أن تكون عدو الحلف ومبرر وجوده، وأن يقرر في الوقت نفسه الأخذ باقتراح أمريكا، قائد الحلف، تخصيص ألف جندي من جنسيات متعددة لحماية دول أوروبية مهددة بخطر العدوان الروسي. بمعنى آخر لم تستطع قمة الناتو إخفاء حقيقة أن الغرب بأسره غير قادر أو مستعد لمواجهة عدوّه الوحيد، ولا أحد من المسؤولين الغربيين يخجل من الاعتراف بالعجز.
على الجانب الآخر، تقف روسيا تحت قيادة رجل وجهاز استخبارات ، قرّرا ذات يوم قبل عقدين إنقاذها من خراب كان في حكم المؤكد. منذ ذلك اليوم اختار الرئيس فلاديمير بوتين الصوت العالي أسلوباً في العلاقات الدولية ، حين تكون الحرب غير ممكنة ويكون خصمك مثلك تماماً مثخناً بالجراح ومنهكاً. عرف بوتين مبكراً أن بلديهما، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، تنافسا وتسابقا وتناطحا حتى تمكن من كليهما الضعف والإنهاك. إن العلاقة الراهنة بين موسكو وواشنطن لمثيرة حقاً للانتباه. خصمان لا تفرّق بينهما عقيدة بعينها أو مصالح استراتيجية كتلك التي كانت تفرّق بينهما قبل خمسين وستين عاماً، أو حتى تلك التي كانت تميز حالة العداء المستتب بين روسيا من جهة وألمانيا أو فرنسا من جهة أخرى ، عندما كان توازن القوة هو المعيار المقدّس الوحيد في النظام الدولي آنذاك، ومع ذلك يستمران في ممارسة خصومة تعتمد معياراً آخر، لعله معيار العصر، ألا وهو توازن الضعف.
لا أحد في عالم الصراع، أو اللا صراع، اليوم لا يعرف المدى الذي وصل إليه ضعف خصمه، وفي الوقت نفسه لا يخفي ضعفه هو نفسه أو على الأقل لا ينكره. موسكو عندما قررت احتلال شبه جزيرة القرم كانت تعرف كل ما يهم أن تعرفه عن ضعف الغرب ، وبخاصة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وعن ضعف أمريكا بالتحديد. ولكنها كانت تعرف أيضا أنها ضعيفة ولا تخفي ضعفها إزاء احتمالات تدخل أوسع من جانبها في أوكرانيا.
ذات الوضع كان قائماً وبنفس الوضوح حين قررت روسيا التدخل في سوريا. لم يكن سراً أو صعباً على الفهم واقع أن كل الأطراف المتواطئة والمتقاتلة والمموّلة والمستوردة، تعاني ضعفاً يضمن استمرار الأزمة السورية إلى وقت غير منظور وبأقل الخسائر الممكنة للجميع ، باستثناء شعب سوريا. تدخلت روسيا مدركة أن الغرب الضعيف لن يجازف بأي شكل من مقومات القوة المتبقية لديه، بما فيها ما تبقى له من قوة سياسية، وهي غير كبيرة على كل حال. كذلك كان ضعف الغرب واضحاً لروسيا حين تدخلت ، وكما صار واضحاً فيما بعد للأطراف العربية وبخاصة اللبنانية ، وكذلك للطرفين الإيراني والتركي، وبخاصة الأخير الذي تخبطت أنشطته في سوريا أيما تخبط، لسوء تقديراته الأولية عندما كان خاضعاً لجملة أحلام، أو قل أوهام، متناقضة.
كثيرون حسب ما أعلم لم يتخيلوا أن الجيش التركي العرمرم الذي كان محل اعتبار كثيرين من منظّري أمن «عربي إقليمي» جديد ، يتفكك وينفرط في ست ساعات أو ثمان، تماماً كما تفكك وانفرط جيش العراق من قبل.
لا أظن أنني أبالغ حين أقول إننا نعيش في ظل نظام دولي يعتمد الضعف معياراً لقياس التفاعلات والأحلاف الدولية، ويستطيع الإسهام في تفسير تطورات الأزمات والصراعات الدولية. ما كنت أتمكن مثلاً من فهم أزمة سد النهضة لولا أني لجأت لتوازن الضعف معياراً لفهم مصدر الخلاف وتطوره، فهمت كيف أن طرفاً تنبه ، ولعله تنبأ بضعف شديد أصاب أو يصيب الطرف الآخر ، بينما الطرف الآخر رافض حتى مناقشة مسألة الضعف وإمكان حدوثها. يبقى ضرورة فهم كيف استطاعت إثيوبيا نقل اقتناعها بحال ضعف مصر إلى أطراف عديدة في إفريقيا ، وكيف ولماذا قررت مصر الاعتماد على حتمية وأبدية «قوتها ونفوذها» وعلى نظرية استعمارية، تعتقد في أبدية الضعف الإفريقي.
42 3 دقائق