قد تكون الحربان العالميتان قمتي التورط البشري والإيغال المزعج في القتل. عندما نقرأهما في كتب التاريخ أو نشاهدهما أفلاماً أو نتفاً من مناظر كريهة في الشاشات في القاعات المبردة، يبدو وقعهما بارداً ومقلقاً، لكنه يرشدنا دوماً إلى التفكير بمسائل العدالة والأخلاق والسياسة وكيفية تصفيتهما في الوجدان البشري. لماذا؟ لأن التشبث بالعنف، والعنف وحده لحسم الخلافات حتى بين أعتى الدول وأعقل الحكام يسقط نظريات العدالة وحق الحياة من أساسها سواء في الفكر الفلسفي أو الديني أو العلمي بما يخلع الإنسانية نهائياً من إنسانيتها. ويصبح السؤال البسيط الملح: متى تشبع الأرض أو متى تعيا الغرائز من شدة العنف؟
هذا ما نحن فيه اليوم. اجتاحني وأنا أتابع بصمت مطبق قمة العرب في قرن الدماء المهدورة.
قد تكون كلمتا «تشويه الإسلام» و«تشويه القيم والمبادئ» من أكثر العبارات التي نصادفها، وتجتاح مسامعنا وعيوننا وتستفزنا جميعاً في التعليقات والنصوص الباردة والشاشات. أقل ما فيها أنها تصب في كتاب الزميل المغربي عبد الله العروي: «أزمة المفكرين العرب»، إذ رأى أننا بشر لا نستشرف الغد، بل نأتي دوماً بعد وقوع الحدث باحثين له عن مطرح مريح أو تبرير مرير.
من هو الذي يشوه الإسلام؟ فوراً، الغلاة الناتئون من قبائل «داعش» وفصائلها الإرهابية وأخواتها وأبناء خالاتها أو أعمامها الذين أعلنوا ما يسمى
بـ «دولة الخلافة» مع العلم واليقين أن الغرب أستفاد ويستفيد من هاتين الكلمتين وأعبائهما، لأنه كما يلحظ العالم بزنوده وأسلحته وعنفه وهو مقيم في أرض العرب. لا فرق بين الاثنين. الغرب مسرور في سره من «تشويه الإسلام».. والمسلمون ينفضون أياديهم من إرهاب «داعش» وغيرها والكل ينتظر عقوداً ثلاثة للتخلص من «داعش» وفقاً للتقويم والإعلان السياسي والعسكري الأمريكي.
إذن، يجب أن ينتظر العرب والمسلمون والعالم نحو ربع قرن بعد حتى يتوقف الدم والتدمير. وكم علينا الانتظار كي يتيبس الدم في الجروح، وينسى الباقون بلادهم وأبناءهم في المقابر العشوائية؟ وبعدها وبشكل أقسى: ماذا يبقى من المسلمين والإسلام بعدما عبر الإرهابيون نحو عواصم العالم كله لا يفرقون بين غربي وغربي، وعربي وعربي، ومسلم وآخر إلا وفقاً للقواميس والاجتهادات المتطرفة الغريبة العجيبة. «تشويه الإسلام» إذن هما كلمتان دون مضمون لهما، ولا تعفي أحداً منا من التفكير والتدبير. ما عادتا تعني الكثير للأغلبية العظمى بعدما طمست فصول الإرهاب الدول وحقوق المسلمين وغير المسلمين والأقليات وحركات الحقوق المدنية المختلفة، وهي تدفع بسرعة باتجاه تأزيم سؤال العدالة لا في الإسلام، بل في العالم كله محملة المسلمين أعباء القرن الـ21 بدمائه وضحاياه المتعددة المذاهب والهويات المشدودة مجدداً نحو الغرائز بدلاً من العقول. ما يخيف هو هذا الإدمان والإمعان في التشويه على المستويات كلها.
أطمح إلى هموم هز الوجدان العربي والمسلم من جذوره على ما نحن فيه وما إليه نركض، والتفكير بالداخل أعني بالإسلام بعدما تمادى الكل في خطف الأديان والأخلاق لا نحو السماء، بل نحو دروب وعرة لا آفاق أمامها سوى المزيد من الوعر والقحط السياسي والعبور المتجدد إلى التراجع والانحطاط المتجدد.
قد يقول منتقد: هي حال الأمم والدول والشعوب والأفراد منذ أن عبس قابيل في وجه شقيقه هابيل. هذا صحيح إذ إن الحروب هي أشرس المصائب وأعمقها في حياة البشر. هذه مسلمة يقر فيها بالاختلاف والتباين في عمق الشراسة وردود الفعل وفقاً لموقعنا في المجتمع. فالمحارب أو المقاتل الواقف بين الموت والحياة هجوماً أو دفاعاً في أرض المعركة، هو غير الطيار المحلق كلمح البصر يسمع سمفونية ويقصف بين السماء والأرض، وهما يختلفان عن القادة والحكام والمفكرين، وهؤلاء يختلفون تماماً عن المدنيين العزل أطعمة الحروب السهلة.
كيف نخلص العدالة من مضامينها الأخلاقية لنجعلها نظرية سياسية اجتماعية يزخر بها الإسلام أساساً أكثر من الكثير من الموروثات الأخلاقية؟ ليس المقصود من ذلك تحديد الخير والشر مجدداً أو استنباط قيم التعامل بين الناس بقدر إعلان المبادئ التي يجب أن تقام عليها البنى الأساسية السياسية للمجتمعات العربية. والمقصود بذلك المؤسسات الأساسية الأولية للتشريع والاقتصاد والدساتير والتعليم وخصوصاً التربية في الدرجات الأولى، وكل ذلك يتوخى الفرد ورغباته في تحقيق نفعه الخاص والعام.
الحلم بقمة عربية في إفرست تفاجئ العالم بهدف توفير البيئة للمواطنين العرب من مرجعيات دينية وفلسفية وأخلاقية قد تكون وستبقى متباينة، لكنها قادرة، وهي قادرة على العيش في فضاء واحد يزخر بالعدالة المفقودة. أولاً باحترام التعددية المعقولة التي يقبل الكل فيها بالتفكير في المختلف أيضا عندما يتطرق إلى الشأن العام، وثانياً التعدد والتنوع كصيغة دائمة للمجتمع العربي الحديث، وتصبح السلطة الديمقراطية فيها هي السلطة السياسية التي تعني سلطة المواطنين الأحرار الذين يتساوون كجماعة مشتركة.
40 3 minutes read