لا يقدر أحد أن يصادر حقائق التاريخ وفق انفعالات عابرة أو تصفية حسابات مستعصية.
المراجعة غير الإنكار، والنقد غير التدليس.
رغم مرور أكثر من قرنين على الثورة الفرنسية فإن السجال الحاد حول وقائعها وتحولاتها وأبطالها لم يمنع الإقرار العام بدورها الجوهري في تغيير مسار التاريخ الإنساني.
يعزى للثورة الفرنسية أنها أطلقت الأفكار الأساسية في الحقوق والحريات العامة إلى آفاق لم تكن متخيلة بمعايير القرون الوسطى، والعالم بعدها اختلف بصورة جذرية عما كان قبلها.
بذات القدر لعبت الثورة الروسية أدواراً لا يمكن التهوين منها في إلهام فكرة بناء عالم جديد أكثر عدلاً.
على منوال مماثل لعبت الثورة الصينية أكثر الأدوار أهمية في الشرق الآسيوي، حيث الكتل البشرية الهائلة التي ترزح تحت فقر مدقع وحروب بلا نهاية مع الأفيون والذباب.
باستثناء لافت نجح الصينيون في الانتقال من الثورة إلى الدولة، ومن التخطيط المركزي الصارم إلى الانفتاح الاقتصادي المحسوب، بأقل كلفة سياسية ممكنة، وأسسوا واحدة من أكثر التجارب استقراراً بزخم التراكم.
بكل التجارب لم تكن هناك ثورة مثالية ولا خالدة.
الأخطاء الفادحة من طبيعة التحولات العاصفة.
الثورات بنات عصورها، وأسوأ قراءة ممكنة لأي ثورة نزعها من سياقها التاريخي أو إضفاء «قداسة» على أحداثها، فكل حدث قابل للمراجعة وكل سياسة قابلة للنقد.
الأمر نفسه ينسحب على ثورة يوليو التي لا يتوقف السؤال حولها من حقبة سياسية إلى أخرى.
حدة السجال الممتد شهادة ليوليو بقوة النفوذ رغم انقضاء الأزمان والرجال.
بأي تصنيف موضوعي فإنها بحجم تأثيرها واحدة من أهم الثورات في التاريخ الحديث.
تقبلها أو ترفضها، ليست هذه هي القضية.
القضية بالضبط أن أحداً، بغض النظر عن موقفه منها، لا يمكنه التقليل من أدوارها في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لا يمكن كتابة التاريخ العربي الحديث دون أن تكون يوليو في قلبه بقوة إلهام مشروعها للوحدة العربية والتحرر الوطني ومقاومة سياسة الأحلاف العسكرية وملء الفراغ التي تبنتها الولايات المتحدة بعد الهزيمة السياسية المدوية للإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية في حرب السويس.
رغم أي إخفاقات حدثت تظل للمعاني الكبرى تأثيراتها الملهمة، فلا إلغاء الهوية العربية متاح أيا كان فدح مستويات التراجع، ولا إلغاء الذاكرة ممكن رغم الهزائم القاسية.
في منتصف السبعينات وجد الروائي الكبير «بهاء طاهر» صورة ل «جمال عبد الناصر» معلقة داخل محل صغير بمنطقة نائية في كينيا.
خطر له أن يسأل صاحبه: «من ذلك الرجل؟».
أجابه بدهشة: «ألا تعرفه.. إنه أبو إفريقيا».
يعزى لثورة يوليو أكثر من غيرها إلهام فكرة الاستقلال وحق تقرير المصير للشعوب المغلوبة على أمرها، وتجربتها الاجتماعية الأهم في التاريخ المصري كله.
بتلخيص ما فإن «يوليو الحقيقة السياسية الرئيسية بالتاريخ المصري المعاصر». بتعبير الأستاذ «محمد حسنين هيكل».
بقوة الأثر التاريخي فإنها ما زالت حاضرة في السجال العام.
ما هو تحرري بنى صورتها. وما هو اجتماعي أكد شرعيتها.
لسنوات طوال كان السؤال الرئيسي: «ماذا تبقى من ثورة يوليو؟».
السؤال بذاته يعني أن نظامها انتهى وتوجهاتها جرى الانقضاض عليها.
مع بداية الانفتاح الاقتصادي عام (1974) تردد في السجال العام سؤال العدالة الاجتماعية وطبيعة الانقلابات الجارية في البنية الطبقية للمجتمع التي نظر إليها على نطاق واسع بأنها قطيعة عند الجذور مع شرعية يوليو.
وقد كانت انتفاضة الخبز في يناير (1977) ذروة الصدام الاجتماعي، فالسياسات تناقضت وتناحرت قبل أن تفترق الطرق إلى الأبد بتوقيع اتفاقية «كامب ديفيد» عام (1978).
في «يناير» كما في «يونيو» عاد الكلام مجدداً عن «يوليو» من منظور جديد.
هناك من حاول أن يصور يناير كأنها ثورة على الستين سنة التي تلت يوليو بزعم- لا يمكن إثباته – أنها حقبة سياسية متصلة، شرعية واحدة ونظام واحد.
كان ذلك استخفافاً بحقائق التاريخ وهزلاً في مقام الجد.
لقد شرخت شرعية نظام يوليو بهزيمة (1967) غير أن الإرادة العامة للمصريين استدعت المقاومة بثقة في «عبد الناصر» ومشروعه وقدرته على إعادة بناء الجيش من تحت الصفر وتصحيح الأخطاء الفادحة في بنية نظامه التي أفضت إلى الهزيمة المروعة.
بتعبيرات «عبد الناصر» فقد كانت هناك «دولة داخل الدولة» و«مراكز قوى» تمركزت في بنية السلطة.
مع الانقلاب على السياسات تصور «أنور السادات» أن بوسعه استخدام أدوات الدولة لإطاحة ما أنجزه سلفه بالأدوات نفسها.
القصة كلها تحتاج إلى مراجعة دون تعسف مع السياق التاريخي الذي جرت فيه.
33 3 دقائق