يوم الأحد الماضي، سأل مذيع قناة «سي أن أن» وزير الخارجية الأميركي جون كيري، عن مدى صحة الاتهامات التي وجّهها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى فتح الله غولن، باعتباره الرأس المدبر لمحاولة الانقلاب. ولما أنكر كيري علم إدارة الرئيس أوباما بأي دور قام به اللاجئ السياسي غولن ضد النظام الحاكم في تركيا، عاجله المذيع بسؤال محرج يتعلق باحتمال تسليمه الى أنقرة، وفق ما طلب أردوغان.
وأجابه كيري بأن تسليم رجل الدين غولن يقتضي من الحكومة التركية تقديم أدلة قانونية مرسلة من وزارة العدل. وفي حال استوفى الطلب المعايير القانونية الملائمة، فإن ذلك يُحال الى لجنة سياسية مختصة بشؤون اللاجئين السياسيين. وفسرت وزارة العدل الأميركية شروط «المعايير الملائمة» بألا يكون الإعدام هو القصاص، كما لمَّح الرئيس أردوغان.
وكان غولن قد نفى للصحف الأميركية تورّطه في أي شكل من الأشكال في محاولة الانقلاب. ثم اتهم بدوره أردوغان بافتعال أزمة الانقلاب العسكري بغرض الانتقام من خصومه الذين يمانعون تعديل الدستور لمصلحة النظام الرئاسي.
لكن، هل هذا كل ما يطمح أردوغان الى تحقيقه من وراء افتعال عملية الانقلاب؟
خبير مركز الأمن الأميركي الجديد، أيان غولدنبرغ، رأى في الانقلاب مبرراً لزيادة قبضة أردوغان على الحكم في شكل مطلق. وقال إن هذا التحول سيزيد الغموض في علاقة تركيا بالولايات المتحدة. وهذا ما أكده مؤلف كتاب «اللعبة الطويلة» دريك شوليه، الذي وصف هذه العلاقة بأنها «ستتحول من سيئ الى أسوأ».
وهذا يستدعي مراجعة سيرة الخصم الذي حاربه أردوغان بإخراج تمثيلية دموية يصعب على شكسبير إخراج واحدة مثلها. وهناك مَنْ يتصوّر أنها أعقد من مسرحية «يوليوس قيصر» التي كتبها المسرحي الإنكليزي للتدليل على أهمية الجماهير في تحريك مجرى الأحداث. أو لإظهار أهمية الكلمة في تغيير مجرى الأحداث.
الخصم الذي نعنيه هو محمد فتح الله غولن، المولود في أرضروم (تركيا) يوم 27 نيسان (أبريل) 1941.
ويقول علماء كشف الطالع في طبائع الشخص المولود في هذا اليوم وتحت هذا البرج، أنه إنسان مجتهد، يتحلى بالرؤية الثاقبة، والقدرة على اتخاذ القرارات الحكيمة. وهو مطبوع على حب المساكين والمهمشين، إضافة الى الرغبة في تحدي الصعاب وكل ما يعترض طموحاته.
ويُستدَل من مراجعة السيرة الغنية لمحمد غولن، أن حياته حافلة بالجهاد، جعلته نسخة صحيحة لما وصفه به علماء كشف الطالع. وساعده على تنمية شخصيته والده رامز أفندي، الذي كسب عنه الابن حب العلم والأدب والدين. كذلك لعبت والدته رفيعة خانم دوراً بارزاً في تلقينه أصول الدين وحفظ القرآن الكريم. وبسبب حبّه للغات، قام والده بتدريسه اللغتين العربية والفارسية، الأمر الذي سهّل عليه حضور الجلسات التي كانت تعقد للعلماء والمتصوفين في تلك المنطقة. وفي صباه، درس البلاغة وأصول الفقه والعقائد، بإشراف أبرز فقهاء عصره عثمان بكتاش. وقد أهلته تلك الثقافة للتعرّف الى العلامة بديع الزمان سعيد النورسي، مؤسس الحركة التجددية ومؤلف كتاب «رسائل النور».
وعندما بلغ غولن العشرين من عمره، عيّن إماماً في جامع مدينة أدرنة حيث قضى فيها نحو ثلاث سنوات، أمضاها في الزهد والتقشف وخدمة الناس.
بدأ عمله الدعوي في جامع أزمير. ومنه انطلق واعظاً متجولاً في كل أنحاء غرب الأناضول. وبعد أن لاقت دعوته الترحاب، ساهم في إنشاء عدد كبير من المدارس. كما حفّزته القيادات السياسية وشجعته على إصدار الصحف والمجلات، وشراء مطابع وتأليف كتب، وإنشاء محطة إذاعة وقناة تلفزيونية. وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي، اخترقت أعماله دول آسيا الوسطى. والمؤكد أن أصداء هذه الأعمال الإنسانية ترددت في الفاتيكان، الأمر الذي دفع البابا يوحنا بولس الثاني الى توجيه دعوة خاصة له.
على عكس نجم الدين أربكان، الذي يعتبره الأتراك الأب الروحي للإسلام السياسي الذي غرف من أفكاره أردوغان الشيء الكثير، فإن الشعب التركي يرى في فتح الله غولن الأب الروحي للإسلام الاجتماعي. وتشبه منجزاته على الصعيد العالمي، منجزات «حزب الله» على الصعيد المحلي، أي تقديم الخدمات للمحتاجين.
وتعتبر «حركة غولن» أكبر حركة دينية داخل تركيا، وفي جمهوريات آسيا الوسطى والبلقان والقوقاز وروسيا والمغرب وكينيا وأوغندا. لهذه الأسباب وسواها، أطلق على هذه الحركة إسم «هيزمت» والتي تعني بالعربية «الخدمة». وبما أنه اعتاد على تقديم الخدمات، فقد تولى أتباعه في الولايات المتحدة إدارة شبكة واسعة من الجامعات والمستشفيات والجمعيات الخيرية والمدارس المجانية.
ويبدو أن أردوغان كان يغار من صديقه القديم الى حد الهوس، ويحرص على عرقلة مشاريعه القائمة في أفريقيا والقوقاز والبلقان. من هنا استغراب الدول الكبرى من الاهتمام الزائد الذي ركزه على القارة الأفريقية التي افتتح فيها 25 سفارة على امتداد العشر سنوات الماضية. واللافت، أنه وصف أثناء زيارته الأخيرة لأفريقيا حركة «هيزمت» بأنها حركة «إرهابية» كونها تتحدى الدولة التركية، وتسرق دورها في ميادين الإعلام والثقافة وفتح المدارس.
وعملاً بسياسة الملاحقة والحصار لكل المواقع التي يدخلها غولن، رفع أردوغان ميزان استثمارات بلاده في السودان الى ستة بلايين دولار. ومن المتوقع أن يفتتح بعض رجال الأعمال الأتراك مكتباً في الخرطوم بهدف تسهيل إجراءات التنقل والاستثمار.
في مؤتمر صحافي عقده في القرية الريفية التي يقطنها في ولاية بنسلفانيا، أعلن فتح الله غولن (75 سنة) تبرؤه من أي علاقة بالانقلاب العسكري. ووصف تصرفات الرئيس رجب طيب أردوغان بأنها مماثلة لتصرفات روبسبيار، المستبد الظالم الذي خطف الثورة الفرنسية.
في زحمة التهليل لفشل الانقلاب، وبهجة المواطنين لانتصار حزب «العدالة والتنمية»، تجاهلت حكومة بن علي يلدريم تحذيرات رئيس نقابة المحامين علي أرسلان الذي طالب بضرورة الالتزام بمبدأ محاكمة الانقلابيين أمام العدالة. واعترض في أول تصريح له، على سرعة إصدار مذكرات الاعتقال بحق 140 عضواً من المحكمة العليا، و48 من أعضاء المجلس الدستوري، و2745 قاضياً ومدعياً عاماً. إضافة الى توقيف 18 ألف ضابط شرطة عن العمل، والقيام بحركة تطهير طاولت حوالى 60 ألف شخص.
كذلك تجاهل وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو التساؤلات التي أطلقتها مجلة «دير شبيغل» الألمانية حول ضمانات المحاكمة العادلة. وقالت في افتتاحيتها إن حكم الخيانة صدر بسرعة فائقة قبل إجراء أي تحقيق مسبق يفرضه نظام العدالة.
واللافت في هذا السياق، ما ذكره السفير صالح مطلوشن، ممثل تركيا لدى منظمة التعاون الإسلامي. ففي مؤتمره الصحافي الذي عقده في جدة، أعلن «أنه كان لدى الحكومة علم مسبق باحتمال وقوع انقلاب». ولم يسأله أحد من الحضور لماذا تركت الحكومة الانقلابيين ينفذون مؤامرتهم، إذا كانت فعلاً على علم مسبق بها.
ثم استطرد ليفسر الطريقة التي تمت بها الاعتقالات، وقال: إن عدداً كبيراً من الانقلابيين يعملون في مؤسسات حكومية. ومعظمهم يسكن في منازل أمنتها لهم الدولة، الأمر الذي يوفر لها المعلومات عن عناوينهم وأماكن عملهم. وأضاف: هناك عدد كبير من المتورطين في محاولة الانقلاب تركوا وراءهم قوائم ومراسلات تفضح أسماء المتعاونين معهم في العملية الفاشلة.
ويُستفاد من هذا كله أن خطة الانقلاب كانت جاهزة بكل تفاصيلها، وفق ما صممها ونفذها رئيس المخابرات هاكان فيدان، الذي يلقبه أردوغان بـ «كاتم أسراره»… في حين يصفه الشعب بـ «الثعلب».
وترى صحيفة «معاريف» أن التأييد الذي حصل عليه أردوغان في الداخل والخارج، يسمح له بإجراء تطهير عميق في الجيش، وتحييد خصومه في جهاز القضاء، وإحكام سيطرته على وسائل الإعلام.
وترى جماعة غولن أن لوائح الانتقام وضعت مسبقاً، وأن «المتآمرين» تركوا بالصدفة أسماء المتعاونين معهم بحيث تستخدم في المحاكم كشهادات إثبات.
وفي تصوّر هذا الفريق، فإن توقيت موعد الانقلاب اختير مع عطلة أردوغان في فندق ناء يقع في منتجع مرمرة. هذا كله كي يقال إن الأحداث جرت من دون علمه… وإنه فوجئ بوقوعها.
الأندية السياسية في لبنان تتذكر أن «المكتب الثاني» في مطلع عهد الرئيس فؤاد شهاب، قام بمراقبة خطوط هواتف قادة الحزب السوري القومي الاجتماعي، عندما بلغه أنهم يستعدون للقيام بانقلاب ضد نظام بدأ يميل نحو جبهة جمال عبدالناصر، لذلك حصل الحزب على تأييد القوى اليمينية المتطرفة ضد سياسة عبدالناصر.
ويعترف المحامي والأديب عبدالله قبرصي، في مذكراته بأن أحد ضباط «المكتب الثاني» أبلغه أن خطه مراقب، وأن قيادة الجيش تنتظر ساعة الصفر.
وبالمقارنة مع حركة الانقلاب في تركيا، فإن أردوغان كان على علم مسبق بالتوقيت، لأنه هو الذي هيأ الأجواء بواسطة استخباراته… ولأنه هو الذي افتعل المحاولة ضد فتح الله غولن. والهدف من هذا كله منعه من العودة الى تركيا، لأنه يرى فيه نسخة أخرى عن الخميني، وأن هذه العودة ستزعزع دعائم حكمه.
الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لا ترى في معارضة غولن أمراً مستغرباً أو مستهجناً، وهي ترى في انتقاداته السياسية عملاً دستورياً يتيحه النظام الديموقراطي. والدليل أن حزب العمال البريطاني يملك جهازاً مساوياً في المراقبة والمسؤولية شبيهاً بجهاز الحكومة. وبما أن هذه الدول لا تعترف بنظام الحزب الواحد، فإن ما يخطط له رجب طيب أردوغان يُعتبر من بقايا الأنظمة الديكتاتورية… أو من بقايا نظام السلاطين!