نون والقلم

تركيا لم تعد نموذجاً

خيط رفيع يفصل بين تطهير الجيش التركي من الانقلابيين والحفاظ على كرامة هذا الجيش وقوته. والحال أنه ما دام رجب طيب أردوغان رئيساً للدولة التركية، فإن ولاء الجيش هو مادة اشتغاله الرئيسية التي شرع بها فور تولّيه السلطة وخاض لأجل ذلك مساراً طويلاً من الملاحقات والمحاكمات بهدف تطهير الجيش وإخضاعه، ناهيك عن إضعافه معنوياً بفعل منهجية مدروسة لتحييده عن الصراع على هوية تركيا الثقافية. وهذا كله لأن توجهاته في فرض الطابع الإسلامي تعاكس قناعات الجيش والمسار التقليدي للمجتمع التركي.

فمسار أسلمة المجتمع في تركيا هو محط انقسام داخلي عدا أنه يُفقِد الجيش أحد موضوعاته الأساسية، أي الحفاظ على هوية تركيا العلمانية، إذ إن لذلك يعود الفضل في بناء تركيا الحديثة التي وجدت هويتها ضمن تقاطع معادلة الشرق – غرب، حيث خرجت من الحروب العالمية قوة حضارية منخرطة في المستقبل ويحتاج إليها العالم في توازناته الدقيقة. وموقع تركيا هذا أتى نتيجة لرؤية مؤسّس الدولة الحديثة مصطفى كمال أتاتورك الذي رسم تلك الخيارات وحسم هويتها وأرسى قواعد الحداثة في مفاصل الدولة.

أما التوجّه الذي يسير عليه أردوغان نحو النظام الرئاسي فهو أيضاً محط انقسام داخل المجتمع التركي وداخل حزب العدالة والتنمية على حد سواء، ويشكل مادة دسمة لتحشيد المعارضة والمجتمع المدني لمواجهة طموحات أردوغان.

طبعاً لا يمكن أن تُطرَح إشكالية العلاقة بين الجيش والشعب في تركيا من زاوية المعيار الديموقراطي فقط، وهذا الأمر شكل ارتباكاً على مستوى تفاعل حكومات العالم وشعوب المنطقة مع الأخبار الأولى للانقلاب. إذ ظهر كأن دعوة أردوغان شعبه للنزول إلى الشارع لوحدها قد أفشلت الانقلاب، فيما تبيّن لاحقاً أن تلك الحركة لم ترتكز على مقدمات وشروط تضمن نجاحها حتى على مستوى التحضير داخل المؤسسة العسكرية التي سرّب قادتها المعلومات لأردوغان قبل انتشار الانقلابيين الذين أرسلوا 4 عسكريين فقط لاحتلال مقر التلفزيون الرسمي في البلاد!

بالتأكيد تسير تركيا بعد فشل الانقلاب نحو تبدلات عميقة غير معزولة عمّا يدور من حولها في المنطقة، وتبرز مجموعة من الانطباعات التي تشي بذلك، فالخارطة الإقليمية للإسلام السياسي في المنطقة تغيرت في سرعة فائقة خلال عامين فقط، وحيث بدت تركيا عام 2012 مُلهِمة لنموذج ينتشر في تونس وليبيا ومصر وغزة ويُحضّر لحقبة من الإمساك التركي بأوراق إضافية تقوي حضورها في مواجهة أوروبا، بحيث تبرهن للشعب التركي نجاعة التوجه نحو الشرق متحصنة بالإسلام بديلاً عن العلمانية. إلا أن ذلك كله تبدد مع التحولات اللاحقة في مصر وتونس التي قلبت مشهد الإسلام السياسي في المنطقة.

فالموجة الأولى من الديموقراطية، بعد تحولات العام 2011، جاءت إسلامية الطابع، عاطفية وغير ناضجة في آن. وقد بدا من غير الممكن التركيز فقط على القضايا الداخلية وتجاهل السؤال عن الدور الإقليمي والحضاري، إضافة إلى تحديد الهوية السياسية والثقافية للدولة. طبعاً تركيا انفعلت مع هذه التحولات بارتباك أفقدها مكانتها كدولة حضارية كبيرة، وأدخلت نفسها في حسابات الإسلام السياسي بكل تفاصيله. ركزت على تصدير النموذج مُستغلة حاجة العرب الى تجربة يسترشدون بها في ظل ضياعهم في تلك الفترة. وذلك قاد أردوغان إلى الإيغال في الموقف الانفعالي مع مصر بعد إسقاط محمد مرسي، ولم تقوَ جهود المملكة العربية السعودية في ترطيبه على رغم الحاجة الماسة الى دور مصري ملائم ومتناغم مع أدوار تركيا والمملكة على المستوى الإقليمي.

الموقف الإقليمي لحكومة أردوغان، بخاصة احتضانها الثورة السورية، هو الذي صحّح المسار وغطى على مكامن الخلل في السياسة الإقليمية لحزب العدالة والتنمية، ووجد العرب في تركيا شريكاً إقليمياً مهماً في التوازن مع إيران.

لكن أزمة تركيا لا تقف عند حدود الضياع بين خيارات الأسلمة والعلمانية أو بين الاتجاه نحو الشرق أو الغرب، إنما تكمن أيضاً في أنها لا تترجم قوتها الفعلية وامتيازاتها الجيو – استراتيجية إلى أفعال تساعدها على التعامل مع ما يجري في مجالها الحيوي، بخاصة في سورية والعراق. وهذا القصور الذي زعزع علاقتها بحلفائها التقليديين (الولايات المتحدة والأطلسي) هو الذي يضاعف من التداعيات السلبية للسياسة الخارجية على الداخل. وربما لو بادرت تركيا إلى التصرف بحزم مع بدايات الأزمة السورية وقبل التدخل الروسي لألزمت العالم الاعتراف بمصالحها ومخاوفها المتعلقة بأمنها القومي. ولو طبقت سياسة تصفير المشاكل في الداخل وفي العلاقة مع الأرمن والأكراد لانتهت حكومة أردوعان من أوزار الملفات الحساسة التي تنعكس على وحدة نسيجها الداخلي ولتفرغت إلى القضايا الخارجية. وكم بدت سياسة تصفير المشاكل مع الخارج غير واقعية لدولة تقع على تقاطع بحار وقارات وحضارات، وتقع على تماس مع أنظمة مُتحوّلة وهي عضو في حلف عسكري له استراتيجياته الدولية.

لا شك في أن المخاض التركي سيلد حالة سياسية أكثر تركيزاً وضغطاً باتجاه المصالحة في الداخل، وذلك حتى لو نجح أردوغان في تحجيم دور الجيش، لا سيما أنه في الانتخابات المُعاد إجراؤها في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وعلى رغم حصول العدالة والتنمية على غالبية في مقاعد البرلمان، إلا أنه لم يتجاوز عتبة الـ50 في المئة من مجموع الأصوات في النظام النسبي. تركيا دولة تتميز بعراقة في المستويين السياسي والعسكري، وتراكم الإرث الديموقراطي فيها لن يكون في اتجاه واحد، إنما انفعالات أردوغان في الداخل أخذت تهدّد الديموقراطية.

مشكلة أردوعان التي تلاحقه ليست مع الانقلابيين الذين تتوافر شروط نجاحاتهم أو فشلهم بحسب الظروف، مشكلته مع حراس الدولة العلمانية في الجيش والمجتمع!

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى