سيدخل المؤتمر الحالي للحزب الجمهوري في كليفلاند التاريخ كواحد من أكثر المؤتمرات حملاً للمفارقات والأرقام القياسية. فهو الأشد «بياضاً» بالنسبة إلى عدد المندوبين، والأوضح في دلالاته على المآزق التي وصل إليها الجمهوريون في ردودهم على التحديات الداخلية ربما منذ مئة سنة، والأعمق في إشارته إلى الانقسام في صفوف «الحزب العظيم القديم» في نصف القرن الأخير على الأقل.
سيجد قارئ البرنامج الذي أقره المؤتمر الجمهوري تكراراً لعبارتي «العودة» و «إعادة النظر» في شأن العديد من المسائل الحيوية التي يختلف الأميركيون عليها، ابتداءً من إلغاء قرار المحكمة العليا بالسماح بزواج المثليين، وصولاً إلى الانقلاب على السياسات الصديقة للبيئة التي أقرتها إدارتا باراك أوباما، إضافة إلى التجاهل الكامل لموضوع ضبط بيع السلاح على رغم تكرار حوادث القتل الجماعي بوتيرة غير مسبوقة.
ما سجله عدد من الباحثين الأميركيين كخلفية لصعود ظاهرة ترامب في الشهور الماضية وتعبيرها عن مزاج شريحة واسعة من الأكثرية البيضاء ومخاوفها من المهاجرين والأقليات العرقية والدينية وتدهور الموقع الاجتماعي والاقتصادي واليأس من السياسات التي تصب دائماً في مصلحة الشركات الكبرى و «المؤسسة» السياسية – المالية، أي بكلمات ثانية، الوجه الآخر للمخاوف التي حاول المرشح الديموقراطي اليساري برني ساندرز التطرق إليها من دون اللعب على وتري الخوف والشعبوية اللذين أفرط ترامب في اللعب عليهما، يظل صالحاً في تفسير ذلك النزوع إلى تأييد رجل الأعمال الثري الذي يفترض وفق المنطق التقليدي أن يشكل مصدر خوف عند الناخبين الفقراء وليس العكس.
يبدو هنا أن ترشيح ترامب يشبه النكتة التي تحولت واقعاً ثقيلاً. لقد جرى التسامح مع الرجل باعتباره ضمن التشكيلة الجمهورية التي تضم شخصيات أكثر جدية، مثلاً تيد كروز وجيب بوش على سبيل المثال، ولم تحظَ التوقعات بفوزه بترشيح الحزب بأي اعتبار. لقد عومل كأنه «مهرج الحفلة» الذي يضفي جواً من الخفة ويرسم الابتسامات على وجوه الضيوف بكلماته الفظة وسلوكه الأرعن، إلى حين اقتراب وقت الجد، فينسحب المهرجون ويتصدر المشهد المرشحون الحقيقيون الذين يمثلون المصالح الكبرى والقطاعات الحيوية في الاجتماع والاقتصاد في الولايات المتحدة.
المزاح الذي انقلب واقعاً جاء بعد الصدى الواسع الذي لاقته كلمات المهرج المفترض عند الناخبين الجمهوريين، خصوصاً في الفئات التقليدية والفقيرة التي أرهقتها أعوام الأزمة الاقتصادية والمسافة الشاسعة التي تفصل بين الفئات هذه وبين النخب المتمركزة في المدن الكبرى. صحيح أن أسلوب ترامب، من استخدام كلمات بسيطة وساذجة، وسخريته من ذوي الإعاقة والتناقضات الفاضحة في خطاباته ومواقفه وكذبه المفضوح في شأن ثروته وواجباته الضريبية، تنتمي كلها إلى مدرسة لا تقيم وزناً للناخب، ولا ترى فيه غير درجة يجوز الدوس عليها لصعود سلم المال والسلطة، بيد أن المدرسة هذه لا تنقصها الوقاحة في التعبير عن رأيها حتى لو كان مخالفاً للقيم السائدة أو التي تتعين مراعاتها (وهو ما يريح الباحثين عن «الكلام الصريح») من جهة، ولا تنقصها أيضاً القدرة على مخاطبة الجمهور العريض المتألم في حياته اليومية والخائف من تزايد الصعوبات فيها.
في هذا السياق، يبدو ترامب مثل المهرج الذي يقول الكلام القاسي والجارح، من دون أن يلقى معارضة لأنه مجرد أبله، لكنه في اللحظة المناسبة ينقلب إلى ذلك الصنف من المهرجين الأشرار الذين لا يتورعون عن القتل والذين تعج بهم أفلام الإثارة الأميركية.