بعد مرور أكثر من عقدين من الزّمن على انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، وما رافق ذلك من أحداث وتبدّلات دولية متسارعة، يبدو أن العالم لم يرس بعد على نظام واضح المعالم، بالرغم من التبشير الذي أطلقته الولايات المتحدة في بداية القرن الماضي ببزوغ «نظام دولي جديد».
ذلك أن وجود نظام دولي يفترض توزيعاً للنفوذ والقوة بين مختلف الفاعلين الأساسيين في الساحة الدولية خلال مرحلة معينة، ووجود ضوابط دولية تستند إلى المؤسسات وقوة القانون، ترسّخ العدالة لا الفوضى.
فبعد سيادة نظام دولي عكس موازين القوى، الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية، وترجمت ضوابطه في ميثاق الأمم المتحدة، عرف العالم تحولات متتالية كشفت قصور وعجز مبادئ القانون الدولي عن مقاربة الأوضاع الدولية الجديدة؛ وهو الأمر الذي فتح المجال واسعاً لظهور عدّة ممارسات انفرادية؛ تتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة (أزمة لوكربي، والتدخل في الصومال، والعدوان الإسرائيلي على غزة..) هذه الوضعية دشنت لواقع دولي طُرحت بشأنه مجموعة من الإشكالات بشأن حقيقة هذا النظام في ظل أزمة القانون الدولي، وقصور الأمم المتحدة.
يحمل «النظام الدولي» أكثر من معنى، فإضافة إلى كونه يعبّر عن شكل لتوزيع القوى بين الفاعلين الأساسيين في العلاقات الدولية، فإنه يحيل أيضاً إلى سيادة العدل، ووجود قواعد ثابتة تحكم التفاعلات الدولية. ويهدف النظام الدولي أساساً إلى تحقيق نوع من الاستقرار في العلاقات بين الدول الرئيسية فيه، في إطار تعدّدي أو ثنائي الأقطاب أو أحادي القطبية.
وتعود فكرة «النظام الدولي الجديد» إلى سنوات الخمسينات من القرن المنصرم، عندما طالبت دول العالم الثالث ببلورة «نظام عالمي جديد» باب الشراكة الدولية بعيداً عن الهيمنة والتوتر، وهو ما تبلور في عدد من المقررات والتوصيات الصادرة عن حركة عدم الانحياز.
وفي الحادي عشر من شهر سبتمبر/أيلول لسنة 1990، وفي أجواء نهاية الحرب الباردة، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كقطب مهيمن في الساحة الدولية، وبمناسبة بروز أزمة الخليج الثانية، أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق «جورج بوش» الأب، أن العالم يشهد بروز «نظام دولي جديد» مبني على التعاون والإخاء واحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان ومواجهة الأخطار المحدقة بالسلم والأمن الدوليين، وخال من الإرهاب، وتلعب فيه الأمم المتحدة دوراً بارزاً وفعالاً.
وقد حدّدت قمة أعضاء مجلس الأمن بتاريخ 31 يناير/كانون الثاني 1992 مرتكزات ما يعرف ب «النظام الدولي الجديد» في تبنّي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ورفض الإيديولوجيا ومكافحة الإرهاب، وتقوية دور مجلس الأمن، والأمين العام الأممي وتفعيل الدبلوماسية الوقائية.
تراوحت المواقف بشأن حقيقة هذا النظام بين مُقر بوجوده، وبين منكر له، فيما برز رأي ثالث حاول التوفيق بين الرأيين السابقين، واعتبر أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى تحولات تعبر عن نظام دولي يتشكّل ومازال في بداياته الأولى.
فأصحاب الرأي الأول، يعتبرون أن «النظام الدولي الجديد» من الحقائق السياسية الدولية، ويعتقدون بأن هناك ما يكفي من المستجدات السياسية التي تدلّ على وجوده، من قبيل انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي وبروز الولايات المتحدة كقوة عظمى ووحيدة، ودعم دور الأمم المتحدة باعتبارها تجسد الشرعية الدولية، وتنامي مجموعة من المشكلات والتحديات الدولية الجديدة كمشاكل البيئة والإرهاب والمخدرات والأمراض العابرة للحدود، وتراجع مكانة القوة العسكرية في إدارة العلاقات الدولية، وتزايد مكانة القضايا الاقتصادية ضمن الاهتمامات الدولية؛ واتساع نطاق التحول الديمقراطي على الصعيد العالمي، وتزايد حدة الصراع بين الشمال والجنوب.
أما أصحاب الرأي الثاني؛ فيشكّكون في صحّة وجود هذا النظام، ويعتبرون أن كل ما جرى في العالم من تحولات ملحوظة خلال السنوات الأخيرة، لا يرقى إلى مستوى بناء «نظام دولي جديد»، وإنما يظلّ مجرد متغيّرات وأوضاع دولية جديدة.
بل إن هناك من اعتبر أن الأمر يتعلق بخدعة ومؤامرة قادتهما بعض القوى الغربية الكبرى عبر رفع هذه المفاهيم «المضلّلة».
وبين الرأي الأول والثاني، هناك رأي توفيقي وإن كان يقرّ بنهاية «النظام الدولي القديم»، فإنه يؤكّد أن ملامح وثوابت هذا النظام لم تكتمل بعد؛ ويصرّ على أن الأمر لا يعدو سوى مرحلة انتقالية يطبعها تسارع الأحداث.
إذا كان الواقع الدولي قد شهد خلال العقدين الأخيرين مجموعة من التّبدلات والتّغيرات الجذرية، إن على مستوى القضايا والاهتمامات أو المشكلات والأزمات؛ فإن القانون الدولي باعتباره ضابطاً مفترضاً للعلاقات الدولية، ولأي نظام دولي؛ ظل جامداً، ولم يواكب هذه التحولات، وهو ما أفرز ممارسات وتكييفات زكّت الطبيعة «الهيمنية» للقانون الدولي.
أمّا منظمة الأمم المتحدة التي نجحت إلى حد كبير في إعمال السبل الوقائية لحفظ السلم والأمن الدوليين، عبر بلورة مجموعة من الآليات المرتبطة بالحد من الأزمات من خلال حفظ السلام، وصنع السلام وبناء السلام والدبلوماسية، أو من خلال جهود وكالاتها المتخصصة في المجالات التنموية والصحية والتربوية والتقنية، فإن عملها على مستوى “التدخلات الزجرية” لحفظ السلم والأمن الدوليين، أو لرد العدوان بعد نهاية الحرب الباردة؛ تميّز بنوع من الانحراف تارة، وعدم الفاعلية تارة أخرى.
يبدو أن العالم لم يشهد بعد، اكتمال ملامح نظام دولي محدد، بالنظر إلى الوضعية الراهنة للقانون الدولي وواقع الأمم المتحدة، فالأمر لا يعدو أن يكون سوى واقع دولي أفرزته التحولات التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، وما رافقها من هيمنة أمريكية على الساحة الدولية..
إن غياب ضوابط دولية تحمل قدراً من التوافق بين جميع دول العالم بشماله وجنوبه؛ تؤطر هذه التحولات، وعدم فاعلية هذه المؤسسات في انتزاع حقوق الضعفاء في مواجهة الأقوياء، من شأنه أن يراكم سوابق قد تهدد بانهيار القانون الدولي برمته، ويسهم في انتعاش مقولات صدام الحضارات، ومظاهر التطرف وتصاعد أعمال الإرهاب على امتداد مناطق مختلفة من العالم.
نقلا عن صحيفة الخليج