بينما كانت العلاقات بين عدد من الدول الأعضاء في حلف «الناتو» وروسيا تعود إلى طبيعتها، خصوصاً مع تركيا وألمانيا وفرنسا، بعد توترات على أسباب مُختلفِة حصلت في السنتين الماضيتين، انعقدت قمة حلف شمالي الأطلسي في وارسو عاصمة بولونيا في 8 و9 يوليو/ تموز 2016، ورسمت من خلال الخطابات التي أُلقيت فيها، ومن مضمون مقرراتها، صورةً مُضطربة للعلاقات بين الحلف وروسيا، وكادت بعض الخطوات التي اتخذتها القمة – ومنها نشر 4000 عسكري مع معداتهم المتطورة في دول البلطيق على الحدود مع روسيا – أن تُعيد ما يُشبه الحرب الباردة الجديدة بين الفريقين لولا تدارك الأمر، والدعوة فوراً إلى اجتماع في بروكسل (عاصمة الحلف) بين الأمين العام للحلف نيس ستوليتنبرغ ومندوب روسيا الكسندر غروشكو.
المراقبون استغربوا تفاقُم التوتر بين الطرفين في هذا التوقيت بالذات، لعدم وجود عوامل أمنية أو عسكرية تستدعي الاستنفار، أو التحشيد العسكري، خصوصاً أن فرنسا وألمانيا الدولتان الكبيرتان الأعضاء في الحلف، تدعوان إلى تعزيز العلاقات بين دول الحلف وروسيا، لعدم وجود نوايا عدوانية روسية تجاه أوروبا – على ما أكد المسؤولون في موسكو – كما أن تركيا العضو الفاعل في الحلف وتقع على حدود روسيا الجنوبية، تجاوزت للتو الأزمة التي كانت قائمة بينها وبين روسيا على خلفية إسقاط المقاتلات التركية لطائرة السوخوي الروسية على الحدود السورية، وكاد الحادث ان يؤدي في نهاية العام 2015 إلى حرب بين البلدين، ولم يُحرِّك «الناتو» ساكناً، ولم يُساند الموقف التركي كما يجِب.
خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام قمة وارسو فاجأت الحاضرين، باعتبار أن أمام حلف الأطلسي ثلاث مهمات: محاربة «داعش» ومواجهة روسيا واحتواء الخروج البريطاني من كنف الاتحاد الأوروبي. ووضع التهديد الإرهابي الداعشي في المستوى نفسه مع التهديد الروسي، الأمر الذي أزعج بعض الحاضرين، وأوضح الرئيس الفرنسي أمام القمة «أن روسيا ليست خصماً بالنسبة لفرنسا»، كما أن الإعلام الألماني سخِر من هذا التصنيف الذي وضعه أوباما، وركز على استفتاء أُجري في ألمانيا، أشارت نتائجه إلى أن 80% من الألمان، لا يعتبرون روسيا دولة معادية، أو أنها تُهدِد أوروبا. ووزير الخارجية الألماني فرانك شتاينماير اعتبر «أن الحلف يُحرِّض على الحرب مع روسيا من دون مُبرِّر».
مهما يكُن من أمر، شملت القرارات الأطلسية في وارسو نشر 4 كتائب على حدود روسيا الغربية في دول البلطيق، وزيادة في الإنفاق الدفاعي بنسبة 2%، وهو إجراء قال الحلف إنه رد على نشر روسيا 30 ألف جندي على حدودها الغربية منذ يناير/ كانون الثاني الماضي.
في المقابل، لم يحرق الناتو كل مراكب العودة إلى إرساء تعاون مع موسكو، فقمة الحلف في وارسو لم تتطرَّق إلى طلبات العضوية المُقدَمة من أوكرانيا وجورجيا على الإطلاق.
لا يوجد في أوروبا مناخ حرب بالمعنى الواقعي، ولم تتخط التجاذبات بين روسيا وبعض دول شمال الأطلسي الإزعاجات المُتبادلة وتطبيق عقوبات اقتصادية على خلفية ضمّ روسيا لجزيرة القُرم منذ يونيو/ حزيران 2014، وعلى خلفية تدخُلها العسكري في أوكرانيا، ولكن المناورات العسكرية الروسية التي جرت في الشمال الغربي من قبل قوات الصواريخ الاستراتيجية المُتنقِلة، والمناورات التي أجرتها بعض القطع العسكرية التابعة للناتو في البحر الأسود، أثارت مخاوف من تصاعد التجاذبات، وزيادة حجم التحشيد المُتقابل. فاستفزاز روسيا ليس مسألة بسيطة، أو عرضيِّة، فعادةً ما يرافق هذه الاستفزازات تهديدات من النوع الثقيل، ذلك على الأقل ما أعقب مناورات الأطلسي عام 2008 في البحر الأسود بعد نهاية الهجوم الروسي على جورجيا، حيث هدد الكرملن باستخدام الأسلحة النووية إذا ما تعرَّض أمن روسيا ومصالحها الاستراتيجية للخطر.
لا يمكن المُقارنة بين القُدرات العسكرية «للناتو» وقدرات روسيا، وهي بطبيعة الحال تميلُ لمصلحة الطرف الأول. لكن وجود الترسانة النووية الروسية الفائقة التطور، يُلغي شيئاً كبيراً من الفوارق اللوجستية والعددية بين الفريقين، وموازنة دول «الناتو» الدفاعية البالغة 950 مليار دولار مقابل 90 ملياراً موازنة الدفاع الروسية، ليس لها تأثير حاسم في حالة التهديدات النووية، لأن القدرات التدميرية المُخيفة لروسيا لا تقلُّ شأناً عن القدرات الأطلسية، وروسيا تُدرِك نقطة الضعف الغربية في هذا السياق.
لم ير المراقبون مُبرِرات كافية لحلقة التوتر الجديدة بين «الناتو» وروسيا، ولكن التعاون الصيني- الروسي في شرق آسيا قد يكون المصدر الأبرز للانزعاج الأمريكي الجديد.