مرت 150 عامًا منذ أن حظر القانون الأميركي على السادة اغتصاب المستعبدات. وقد حظرت جميع الدول المسلمة المعاصرة تقريبًا العبودية على امتداد القرن الأخير. إذن، لماذا يسعى «داعش» لقلب عقارب الساعة نحو الاتجاه المعاكس، حيث يقر ويروج بحماس لاسترقاق الإيزيديات.
ينبغي أن نخرج من الفزع الذي يتملكنا حيال هذه العودة المتعمدة إلى العصور الوسطى، بدرس بخصوص تطور معتقداتنا وما يعنيه أن يكون المرء عصريًا. وينبغي أن نبدأ بالاعتراف بهدوء بأننا لا نبعد عن «داعش» سنوات ضوئية – وإنما مجرد قرن ونصف القرن.
إن العبودية داخل الولايات المتحدة ليست بالماضي البعيد، وإنما لا نزال نتعامل اليوم مع تداعياتها، في صورة استمرار غياب المساواة بين أبناء المجتمعات العنصرية المختلفة والرموز القائمة منذ أمد بعيد من بقايا فترة الولايات الكونفدرالية الأميركية.
وحري بنا ألا ننسى أن العبودية الأميركية، خاصة خلال نصف القرن الأخير قبل إلغاء العبودية، كانت واحدة من أكثر منظومات العبودية وحشية على امتداد التاريخ البشري المسجل. في المقابل نجد أنها كانت في المجتمعات المسلمة تتسم بالرفق نسبيًا.
إن العبيد من أصول أفريقية تعرضوا للتعذيب كي يزيدوا من إنتاج محاصيل القطن، علاوة على خضوع النساء على نحو ممنهج وقانوني للاغتصاب. وقد شرحت زميلتي بكلية القانون في هارفارد، أنيت غوردن ريد، في دراسة لها حول سالي هيمينغز وتوماس جيفرسون، أنهما كانا مثالين لعلاقات معقدة ومتبادلة جزئيًا بين الإماء والأسياد. إلا أنها أوضحت أن هذا النمط من العلاقات شكل الاستثناء وليس القاعدة – وأصبحت هذه العلاقات نادرة بصورة متزايدة في أقصى الجنوب عندما بلغت العبودية ذروتها الوحشية، قبل أن يجري فرض إلغاء العبودية بقوة السلاح.
والآن، ننظر إلى ما أجزناه حتى وقت قريب داخل الولايات المتحدة، باعتباره أمرًا بغيضًا. وبطبيعة الحال، فإننا صائبون أخلاقيًا في رفضنا للعبودية والاغتصاب بشكل مطلق. في الواقع تلك الممارسات – والمنظومات – البشرية خاطئة أشد ما يكون الخطأ، ويجب اقتلاع جذورها هي وتداعياتها بكل وسيلة ممكنة، بما في ذلك القوة إذا اقتضى الأمر.
إن العملية التي نحقق من خلالها رفضنا لهذه التقاليد الكريهة أخلاقيًا هي ما يجعلنا عصريين. إننا نطور أفكارا جديدة لم تكن لترد على أذهان أجدادنا – بجانب تولد قناعة داخلنا بأن أفكارنا القديمة لم تكن خاطئة فحسب، وإنما خاطئة على نحو مفزع.
إن المشروع العصري يدور حول محاولة تطهير أنفسنا من آثام الماضي، مع الاحتفاظ بما هو جيد من موروث الماضي – وهذه المحاولة نحو التطهير والتحسين ما يجعلنا أشخاصًا عصريين.
في الوقت ذاته، لا نرفض كل شيء يتعلق بماضينا، فرغم أن الدستور الأميركي اعترف بالعبودية التي أجازتها قوانين الولايات وأقرها، فإن الأميركيين العصريين لا يرفضون الدستور، وإنما يعترفون بأن جزءًا من قيمة الدستور تكمن في قدرته على التطور فيما وراء صورته الأصلية.
وليس من قبيل المصادفة أن قاضي المحكمة العليا أوليفر وينديل هولمز، أحد أبرز مؤيدي فكرة الدستور الحي، كان من المقاتلين الذين خاضوا «الحرب الأهلية» وأصيب خلالها وفقد أعز أصدقائه بها. لقد عايش هولمز رفض الأمة لأجزاء من ماضيها الدستوري، وعاين ثمن هذا الرفض، وخرج من كل هذا ملتزمًا بالحفاظ على الدستور حيًا – عبر تنقيته من جميع الخطايا التي تضمنها يومًا ما.
كشعب عصري، نراهن دومًا على أننا سنجعل الأوضاع أفضل عندما نغيرها. وأحيانا يجانبنا الصواب في ذلك. ومن السذاجة اعتقاد أن التاريخ، بما في ذلك التاريخ الحديث، ليس سوى سلسلة من إجراءات التطوير والتحسين، فبدءًا من تجاوزات الثورتين الفرنسية والروسية وصولاً إلى فظائع الفاشية والاستبداد، قدم لنا العصر الحديث الكثير من الأمثلة على انحراف الحداثة عن مسارها المرجو لها. إن مسألة وجود شيء جديد يبدو جيدًا ليست ضمانة كافية لكونه أخلاقيًا.
إن جزءًا من الحداثة يكمن في الاعتراف بأن هناك إجماعا ناشئًا على خطأ ممارسات ماضية، مثل العبودية. ومن جانبه، يستعبد «داعش» النساء لينقل للعالم رسالة مفادها أنه يرفض فكرة التطور، رغم قبول الغالبية العظمى من المسلمين لها. أما الاستجابة العصرية الوحيدة الممكنة لهذا الرفض فهي الشعور بالفزع – والالتزام باتخاذ إجراء عملي حيال هذا الرفض.
* بالاتفاق مع {بلومبيرغ}
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط