نون والقلم

30 يونيو.. كلام ضروري

على عكس «يناير»، لم تكن هناك مفاجآت كبيرة في «يونيو». قبل يناير/كانون الثاني 2011، أوحى انسداد القنوات السياسية والاجتماعية في مصر بأن هناك شيئاً ما يوشك أن ينفجر.
التوقعات ذهبت إلى سيناريوهات عديدة ليس من بينها إطاحة نظام «حسني مبارك» بثورة مدنية حديثة تطلب التحول إلى مجتمع ديمقراطي حر تسوده العدالة الاجتماعية.
من بين التوقعات التي سادت «حريق قاهرة جديد» كالذي شب في 26 يناير/كانون الثاني 1952، أو «ثورة جياع» كالتي هبت في 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977. ما جرى خالف تلك التوقعات، والتغيير كله جاء من خارج كل سياق رسمي، وبعيداً عن كل قوة تقليدية. تصدر المشهد التاريخي جيل شاب جذب حيوية شعبه، وتبدى مظهر حديث ألهم عالمه.
فاجأ المصريون أنفسهم قبل أن يفاجئوا العالم بواحدة من أكثر الثورات إلهاماً في التاريخ الحديث قبل اختطافها والتنكر لتضحياتها.
لم تكن هناك في «يونيو» مفاجأة بهذا الحجم. كانت الطرق مغلقة والمؤشرات تؤكد الصدام بين جماعة غاب رشدها في إدراك الحقائق، وشعب يقظ بأثر ثورته في يناير/كانون الثاني.
من يوم لآخر تتصاعد وتيرة الصدام واحتمالات تدخل الجيش، لمنع أي احتراب أهلي محتمل. أرجو ألّا ننسى أن قطاعات واسعة من الرأي العام ألحت على تدخل الجيش، خشية الانزلاق إلى المجهول. بيقين فإن تعطيل المسار السياسي تتحمله الجماعة قبل غيرها.
في «يناير» غابت القيادة بصورة شبه كاملة، وتلخصت الأهداف في شعارات عامة أمكن الالتفاف عليها. في «يونيو» توافرت عباءة تنظيمية واسعة تحت لافتة «جبهة الإنقاذ» غير أنها افتقدت التماسك اللازم للإمساك بمقادير الأمور. بالمرتين سُعي لأهداف واحدة جرى إجهاضها.
شرعية «يونيو» تلخصها محاولة استعادة الثورة المختطفة وإعادة بناء الدولة وفق القواعد الديمقراطية الحديثة.
إذا ما جرى عزل «يونيو» عن أهدافها فالمعنى مسخها. أي حديث يعزل «يونيو» عن «يناير» هو ادعاء على التاريخ. وأي حديث آخر يصطنع التناقض بينهما تدليس على الحقائق. بأي حساب، لم يكن ممكناً تحدي قوة الميليشيات المسلحة، لولا الثقة الاستثنائية التي اكتسبها عامة المصريين في أنفسهم وقدرتهم على التغيير.
ولم يكن ممكناً بغير خبرة «يناير» في التظاهر والحشد والتعبئة، وقف تحول مصر إلى دولة دينية تتغول على مجتمعها بالتهديد والوعيد والتلويح بالاحتراب الأهلي.
كانت الدولة شبه مشلولة، ورغم أدوار بعض أجهزتها في خلفيات مشاهد «يونيو» إلّا أنها لم تكن صلبها ولا موضع قيادتها ولا مصدر إلهامها.
بأي تعريف جدي لما جرى في تظاهرات 30 يونيو/حزيران، فإنها عمل شعبي هائل يستحق كل احترام ولا يليق التقليل من شأنها بأية ذريعة. الانتقاص من «يونيو» إهانة للشعب المصري الذي انتفض لاستعادة ثورته. رغم أي إحباط، فإن السعي نفسه عمل تاريخي.
لم تكن هناك مفاجأة، فالمواجهات بدأت مبكراً في ميدان التحرير مع جماعات الشباب الغاضب، ووصلت ذروتها بتقويض أي قيمة ديمقراطية بالإعلان الدستوري في نوفمبر/تشرين الثاني 2012.
في المواجهات تأكد أن حكماً يتنكر للوسائل السياسية التي صعدت به إلى السلطة لا يمكن أن يستقيم أو يستمر.
لقد ارتكبت جماعة الإخوان المسلمين كل الأخطاء الممكنة لاستنفار طاقة إطاحتها من الحكم، استهانت بالقوى السياسية المدنية وجماعات الشباب المسيس وعملت على «أخونة الشرطة» وتحرشت بالجيش واستعدت قطاعات واسعة من الرأي العام بعضلات القوة من دون كفاءة سياسية.
إن نزع الطابع الثوري عن «يونيو» يحرم عامة المصريين من الاعتزاز بوقفاتهم الكبرى ضد كل ظلم وطغيان. الثورات ليست مؤامرات، لكنها قابلة للإجهاض والاختطاف.هناك فارق جوهري بين شرعية العمل التاريخي، وما قد يتلوه من تفاعلات وتداعيات وآثار عكسية.
في حملات التشهير ب «يناير» ضرب منهجي لصلب 30 يونيو/حزيران، ضرب في جذر الشرعية. وقد استندت «يونيو» إلى رافعتين أساسيتين. أولاهما، الحق في التظاهر. وثانيتهما، حرية الإعلام.
تقييد الأولى أفضى إلى أزمة مستحكمة بين الدولة وشبابها، أخذت تتسع بالوقت للقادمين الجدد من الأحدث سناً كطلاب الثانوية العامة، الذين تظاهروا بالقرب من ميدان التحرير، احتجاجاً على تسريب الامتحانات واحداً إثر آخر.
بنص الدستور فإن الحق في التظاهر ثابت ونهائي، والتنظيم لا يعني إلغاء الحق. وتراجع الثانية أدت إلى تجفيف المجال العام من كل حيوية يقتضيها التماسك الوطني في حرب ضارية مع الإرهاب ويتطلبها حسن إدارة الشأن العام بالحوار لا الإقصاء.
بعد ثلاث سنوات على ثورة «يونيو» فإن هدفها الرئيسي في التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة لم يقف على أي أرض صلبة.
للأهداف الكبرى ضرورات تتجاوز النوايا إلى الحقائق. لا يمكن الالتحاق بالعصر، ما لم تكن هناك خطط لإصلاح المؤسسة الأمنية ومؤسسة العدالة وجهاز الدولة، وفق القواعد والقيم الدستورية الحديثة.
أفضل إنجاز على الإطلاق ل«يونيو» هو دستور 2014، من حيث الحريات العامة وحقوق المواطنين والفصل بين مؤسسات الدولة.
غير أن هناك من يطلب تغييره قبل أن ينفذ، وهذه حملة ممنهجة أخرى تضرب في جذر الشرعية. رغم كل الحملات فإن الشرعية الدستورية الملاذ الآمن الأخير.

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى