نون والقلم

ماضينا.. ومعاناة ذاك المسن

عجوز خَطَّت السّنُونُ علاماتها على وجهه الطّيب، ضَرَير سَرق الزمَان بَصَره، ولسَبَب أو آخَر فَقَدَ شيئًا من عقله.

رأيته ظُهْرًا ذات صَيف، الشَّمس تَقْصف رأسه بنيران أشعتها، والرَّمضاء كانت تَسْتَمْتِعُ بالْتِهَام لَحَمِ قَدَمِيه الحافِيَتَين.

يومها كَتَبتُ عنه مُستغيثًا له، بعدها تواصلت معي إحدى الجمعيَّات الخيريَّة زاعِمَةً نجْدَتَه، غَابَ عن قارعة الطريق يومين أو ثلاثة، ولكنَّه عاد سيرته الأولَى يَجُوب الطُرق، ويَسْكُن الأرصفِة!

تلك الحادثة وقعت قبل سنوات، وتذكَّرتها مع (مقطع الفيديو) الذي انتشر قبل أيام، وفيه ظهَر (مُسِنٌّ) من (جازان) يسكنُ الشارع، شاكيًا من قسوة أبنائه وعقوقهم.

وبحسب مصادر (صحيفة عاجل الإلكترونيَّة)، فإن وزير العمل والتنمية الاجتماعيَّة الدكتور مفرج الحقباني وَجَّه بضرورة الوقوف على حالة المُسِن، وتشكيل لجنة متخصِّصة تدرس حالته، وبالفعل قامت اللجنة بالوصول إليه، واتَّخذت كافة الإجراءات اللازمة، وأضافت إنَّه اتَّضح للجنة أنَّه يعاني من مرض الشيخوخة، التي من خلالها سبَّبت له الكثير من المشكلات العقليَّة والنفسيَّة، وأن هناك تنسيقًا يتمُّ مع جهات ذات علاقة ستتولَّى حلَّها.

وهنا بعيدًا عن ردة فِعْل وزارة العمل والتنمية الاجتماعيَّة التي جاءت حاملة بين حروفها التبرير، بتأكيدها معاناة (المُسِن) عقليًّا ونفسيًّا، فإن الواقع يبصم على أن (ذاك العجوز) ما هو إلاَّ صورة وأنموذج لأولئك المساكين الذي هُم مِنَّا، وبيننا يعيشون، ولكنَّهم على هَامِش الحياة مَرضى في الشوارع تائهون.

أولئك الذين نراهم في الطرقات، أو عند الإشارات في العديد من المناطق والمحافظات، ربما فَقَدُوا الأهَل الذين بهم يَقُوْمُون، أو أنَّ أهلهم وأقرباءهم قَد مَاتَت الإنسانيَّة في قلوبهم، فتركوهم يواجهون مَصِيْرًا مُظلِمًا خلف لقمة أو قطرة ماءٍ يلهثُون.

وبالتالي فمسؤوليَّة حضانتهم، والاهتمام بهم انتقلت للمجتمع ومؤسساته المعنيَّة «الحكوميَّة والخيريَّة»، فلماذا تنتظر تلك المؤسَّسات مواقعَ التواصل الحديثة لتكشف أحوالهم؟ أين مندوبوها في كل مدينة ومحافظة عن متابعتهم ورعايتهم؟.

ولماذا لا تكون هناك جمعيَّات، وأوقاف خيريَّة مهمتها رعاية أولئك الطيّبين والصَّرف عليهم؛ فصفحات تاريخنا الإسلامي قد رصدت لنا أوقافًا عجيبة، تجاوزت لمساتها الحانية محطات الإنسان، لتصل إلى (الحيوان)؛ فقد احتضنت الشَّام أوقافًا للعناية بالكلاب الضَّالة، والقِطَط العمياء، والجريحة، والمكسورة، وكذا الخيول المُسِنَّة؛ فهَلاَّ أفدنا من ماضينا بما يُضِيء ظُلمات حاضرنا؟!

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى