ينبغي، بل يجب أن يتذكر العالم دائماً أن العنف صناعة أمريكية، بدأ من «هوليوود» في شكل شرائط سينمائية يلعب فيها الخيال الشرير دوراً كبيراً، ثم نما وتطور في «البنتاغون» وأخذ ملامحه الأولية والتطبيقية في منظمات «المافيا»، وأتذكر أنني رأيت منذ خمسين عاماً واحداً من أفلام العنف الهوليوودية وموضوعه اختطاف الطائرات، لم تكن هذه الظاهرة المرعبة قد وجدت في الواقع ولم يسبق أن استخدمها أحد في أي مكان من العالم. ومن المؤكد أن الفيلم المشار إليه قد وضع أساساً لهذه الظاهرة العنيفة، وبدأ المتمردون بسبب أو بلا سبب في تحويل ما ورد في ذلك الفيلم وأمثاله إلى فعل حقيقي يتوافق مع الخيال الشرير. وفي هذا النموذج فقط ما يكفي للدلالة على دور مؤسسة التحريض في إنشاء مدارس العنف التي روّعت العالم، وخلقت حالة من الخوف في السفر جواً، ولم يمر وقت طويل حتى انتقلت الجريمة إلى القطارات ليكون البر مسرحاً آخر للرعب والاختطاف.
لن أطلب إلى القارئ أن يستعيد في ذاكرته أفلام «الكاوبوي» وما حفرته في النفوس من تبرير غير أخلاقي لإبادة سكان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر، وما بذله السكان الطارئون القادمون من أوروبا من جهود في إخلاء الأرض الجديدة وكل من يشاطرهم امتلاكها والسيطرة على مواردها. ذلك تاريخ معروف وموثق، وعملت أفلام «الكاوبوي» على تجسيد معالمه بالصوت والصورة ونجحت في تسجيل لوحات لا تنسى عن المجازر التي راح ضحيتها قوم أبرياء لا ذنب لهم إلاّ أنهم كانوا متشبثين بأرضهم وبالبقاء على أديمها حيث ولدوا وحيث عاش ومات أسلافهم.
لقد قامت الولايات المتحدة على جثث أولئك الناس وفي حروب لم تشهد مثلها أزمنة الغابة والجهل بالشرائع والقوانين. ولا يوجد أدنى شك في أن تلك الأفلام قد شكّلت مدرسة في فن الإبادة وجمعت بين عنف الخيال وعنف الواقع وقادت فيما بعد إلى حروب افتقدت أبسط معاني الرفق والمشروعية.
ويستطيع إنسان اليوم أن يجد أمثلة لحروب «الكاوبوي» في أكثر من مكان على هذه الأرض المغمورة بالدم، فقد لعبت ثقافة العنف دورها المطلوب في مسخ المشاعر البشرية وتحويلها إلى رصيد يستخدمه قادة الحروب وتجار الموت في أية لحظة وفي أي مكان، ولم تتورع بعض أجهزة الإعلام المنحرف من أن تمنح قاتل الأبرياء صفة البطولة واختراق الموانع المادية والأخلاقية والروحية للوصول إلى هدفه الرخيص. وما حدث أخيراً، ومنذ أيام فقط للنائبة البريطانية «جو كوكس» دليل حي وشاهد على رسوخ أساليب العنف والإرهاب في الدول التي تسمي نفسها بالديمقراطية وتواصل هجومها على العنف الموسوم بالعربي أو الإسلامي ناسية مصدر العنف الأكبر وينابيعه الأولى. وقد أشارت التحقيقات الأولية في مقتل النائبة البريطانية إلى أن القاتل ينتمي إلى جماعة من النازيين مقرها الولايات المتحدة وتسعى إلى بناء أمة من البيض فقط.
إن العنف بأشكاله المختلفة، ومن أي زاوية أتى مُدان ومرفوض، وليس لأحد – مهما كانت المبررات والدعاوى التي يطرحها- أن يبرر لأي إنسان أو جماعة أن تفسد حياة البشرية وتعمل على ترويع المجتمعات الآمنة والتضحية بالأبرياء، وإحلال الرصاص بدلاً عن الكلمة، والقنبلة بدلاً عن الرأي الآخر. وتجدر الإشارة إلى أن العلم قد حقق نجاحاً مبهراً في تقدم الإنسانية مادياً وساعد على تطوير وسائل التواصل وتحطيم أسوار العزلة بين البشر إلاّ أن منجزاته لم تكن كلها خالصة لوجه الخير، فقد انحرف بها البعض وتحول بعضها إلى قوة للتدمير وزيادة حجم العنف ما جعل كثيراً من العلماء يتمنون لو أن العلم لم يتطور بالكيفية التي سار عليها، وأن البشرية قد ظلت في واقعها المتخلف القديم آمنة من مخاطر منجزات الموت الرهيب ووسائل التدمير الشامل.