نون والقلم

بريطانيا ونهاية «الربيع الأوروبي»

يمكن وصف تبعات الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بما يسمى الربيع العربي، حيث إن أوروبا ككل بما فيها بريطانيا ستشهد تغيرات جيوسياسية خلال السنوات المقبلة، سيكون مظهرها الفاقع هو الندم الإنجليزي على الهروب من تحت المظلة الأوروبية، كما أن الاتحاد الأوروبي نفسه سيدفع ثمناً باهظاً هو الآخر قد يهز أساساته كلها وتبدأ الهزات الارتدادية بخلخلة أركان الاتحاد وربما تلاشيه خلال عقد أو أقل.
بريطانيا قد تحتاج إلى أربع سنوات على الأقل لإنهاء إجراءات الخروج من الحضن الأوروبي وتفكيك نفسها من قوانينه والتزاماتها تجاهه وما قدمه من التزامات إليها. وهي ستضطر إلى دفع تعويضات وانتظار خسائر مالية كبيرة انعكست فوراً على قيمة الجنيه الاسترليني، كما أن الشركات البريطانية التي كانت تسبح في بحر من النعيم الأوروبي ستعامل وكأنها شركات غريبة مع ما يتبع ذلك من خسارة الأفضلية والتسهيلات الضرائبية والاستيراد والتصدير، كما ستهجر رساميل أوروبية بريطانيا لأنها ستخسر التسهيلات الضريبية والعمل بحرية.
لن تشفع لبريطانيا منظمة التجارة العالمية التي ستلجأ إليها لتسهيل صادراتها إلى أوروبا، فيما سيعاني البريطانيون من انخفاض قيمة الاسترليني وزيادة تكلفة الواردات من أوروبا والخارج وزيادة فاتورة السياحة الخارجية. كما أن قرابة مليوني بريطاني يعيشون في أوروبا سيكونون مضطرين للعودة إلى بلادهم وخسارة موارد رزقهم وشركاتهم.

فالكارثة الاقتصادية مقبلة ولن يقلل من آثارها الاندفاع العاطفي القومي لدى الإنجليز والويلزيين. فالجزيرة البريطانية ستشهد صدمات اقتصادية متوالية خلال السنوات المقبلة. ومن الآثار السلبية للخروج الذي تم بدافع قومي إنجليزي هو أن هذا الشعور أدى إلى إشعال الرغبة الاسكتلندية – الإيرلندية في الخروج من المملكة المتحدة، فالاسكتلنديون القوميون طالما انتظروا هذه اللحظة لتأكيد مطالبهم في الانفصال عن بريطانيا فيما وجد القوميون الإيرلنديون نتيجة الاستفتاء فرصة للمطالبة باستفتاء مماثل لتوحيد شطري إيرلندا والانفصال عن بريطانيا بالكامل. إذ لا يمكن لحكومة لندن تبرير رفضها للوحدة الإيرلندية وإرسال قواتها لمحاربة الوحدويين طالما أنها اختارت بنفسها الانفصال عن أوروبا، فالاضطراب الداخلي والاقتصادي سيكون سمة بريطانيا خلال السنوات المقبلة وهو اضطراب ستتردد أصداؤه في أوروبا نفسها.

الاتحاد الأوروبي سيشهد تحرك أحزاب اليمين للمطالبة بالانفصال عن الاتحاد باعتباره صار يشكل عبئاً أمنياً ومالياً على هذه الدول، فأوروبا لن تخسر اقتصادياً من خروج بريطانيا لكنها ستخسر سياسياً وأمنياً داخلياً وخارجياً من جراء ذلك. كما أن بعض دول أوروبا الشرقية التي انضمت للاتحاد مثل تشيكيا التي تحسن وضعها الاقتصادي باتت ترى مستقبلها في الخروج من الاتحاد الأوروبي. فالاتحاد الأوروبي هو الآخر بات يعاني من مشاكل أمنية واقتصادية وقومية كبيرة لم يستطع حتى الآن وضع حد لها.. وهو أيضاً وصل إلى وضع بحيث لم يعد قادرا على دعم اقتصادات دوله التي تتعرض لهزات ركود، ولا دعم دول الاتحاد الشرقية التي انضمت إليه وباتت تعاني اقتصاديا وليس بقادر على احتواء أوكرانيا كبرى الدول الشرقية التي تطمح للانضمام إليه لأن الاتحاد لا يستطيع تحمل تكاليف ضمها بسبب ضعف اقتصادها وعدد سكانها الكبير.
عملياً سيكون المشهد الأوروبي مضطربا على المدى المنظور وآثار الانسحاب البريطاني ستنعكس فوراً على بريطانيا ذاتها سلباً ثم أوروبا لاحقاً لكن المحصلة عدم استقرار اقتصادي وسياسي وداخلي، وهو ما يشبه نسخة من الربيع العربي ذلك أن زيادة الهجرة إلى أوروبا من إفريقيا والشرق الأوسط ستزيد منسوب العنصرية والكراهية ما يعني إنعاش الأحزاب اليمينية وربما سن قوانين عنصرية تدريجياً تحد من الحريات العامة، ما يمهد لظهور فاشية جديدة في أوروبا تكون كفيلة بتفكيك الاتحاد الأوروبي وظهور نازية جديدة حيث إن التطرف اليميني ينتعش مع الأزمات المالية والاجتماعية والاقتصادية وهو ما تمر به القارة الأوروبية، وليس من المستغرب أن يشمل التململ الدول الاسكندنافية الهادئة الغنية التي ما زالت تحافظ على مسافة من الاتحاد الأوروبي اقتصادياً لأنها ترى نفسها متميزة عن بقية أوروبا.
سارعت أحزاب اليمين في هولندا والدنمارك وفرنسا والسويد وفرنسا وإيطاليا إلى تلقف نتائج الاستفتاء البريطاني للمطالبة باستفتاءات مماثلة في بلادها للخروج من منطقة اليورو حيث أجمع زعماء الأحزاب اليمينية في هذه الدول على جعل الاستفتاء على رأس برامجهم الانتخابية المقبلة للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، أما بريطانيا أم مشاريع التقسيم والتفتيت في العالم العربي فلن تكون بمنأى عن إرهاصات التفكيك والانفصال والضمور الاقتصادي وهي كلها مقدمة للركود والنكوص. ولهذا سنشهد حراكاً يمينياً في أوروبا هادئاً وديمقراطياً في البدء لكن الربيع الأوروبي سيتحول إلى الهتك والفتك مع تنامي قوة اليمين.

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى