نون والقلم

التدين المزيف!

قبل سنوات كنتُ في رحلة عمل إلى (جواتيمالا) الواقعة في أمريكا الوسطى، وعند مغادرة مطار عاصمتها، وبعد استلام بطاقات صعود الطائرة، وإنهاء إجراءات الجوازات، تفاجأتُ ورفيق سَـفَـرِي بموظف الخطوط الجواتيمالية يأتي إلينا في صالة السفر ليخبرنا بأنه يلزمنا تأشيرة دخول لـ (دولة السلفادور) التي سنعبر منها في طريقنا لـ (جمهورية نيكاراجوا)؛ مما سـيَـوقعنا في إشكالات كبيرة؛ بحسب ما أفاده مكتبهم هناك، الذي اتصلَ عليه حِـرْصاً منه علينا، فكان اقتراحه بـأن نمتطي رحلة مباشرة إلى (نيكاراجوا)، وهذا ما تَـمّ بمساعدته لنا!

أخبار ذات صلة

ذلك المشهد وقع في أمريكا الوسطى، أما هنا وفي رمضان اضطررتُ للـسّـفَــر إلى إحدى المحافظات لمراجعة (كتابة عَـدل)، بدأ الـدّوام الـرسمي عند العاشرة، لكن الموظف المسئول عن معاملتي وغيري من المراجعين، جاء متأخراً عند الساعة الحادية عشرة والنصف، حيث أطَـلّ علينا بهيئته التي تشهد له بالالتزام الديني..

وأصدقكم القول : ارتحت نفسياً من تلك الهيئة وفي أعماقي بحثتُ لتأخره عن أعذار، وتوقعتُ منه عن ذلك اعتذاراً!

لكنه للأسَـف بدايةً انشغل بمكالمات هاتفيّـة طويلة، ثم بعد التفاتَـتِــه لمعاملات الـمُـنتظرين كانت نَـبَـرَاتُ صوته مرتفعة في خطابه معهم، وبدت قسمات وجهه جَـافّـة، وكأنه يمنحهم شيئاً من مالِـه!

جاء دوري، فاقتربت منه، وأخبرته مبتسماً بأني من أهل المدينة المنورة، وأتيتُ من سَـفَــر، وهناك رحلة عودة تنتظرني قُـبَـيْــل العصر، ورجوته الإسراع في إنهاء إجراءاتي!

فكانت إجابته القاسية التي صَـفَعَـتني وصَـدمتني: «يا أخ، سفرك أمره يخصّـك، ولا شأن لي به، فلا تزعجني»!

شَـتّـان بين المشهدين فـ (ذاك الـرّجُـل الجواتيمالي)، تجاوز الأمانة في أداء عمله إلى الإنسانية في تعامله مع ناس غرباء عن جنسيته ودينه، حاول إنقاذهم من أزمة كانت سَـتَـحُـل بهم!

أما (الثاني) فمع التأكيد بأن تصرفاته تلك تُـمَـثِّـله فقط، ولا علاقة له بِـسِـمَات التّـدين (التي نؤكد عليها، ونقدرها ونحترمها)، لكني أراه أنموذجاً لفئة من الناس اختزلت الالتزام الديني بالمظهر، وتناست الجَـوْهَـر، وأن الـدّين المعاملة!

فـ (دِيْـن الإنسان، وصلاته، وصومه، وحجه، وزكاته، ومختلف عباداته بينه وبين خالقه، وأجرها له)، فما يَهُـمّ الناس من حوله تعاملاته الصادقة والحسَـنَـة معهم، وأن يؤدي واجباته تجاه وطنه ومجتمعه بأمانة وإخلاص؛ فهو بذلك يكون خير سفيرٍ لِـدِيْــنِـه؛ فكم نحن بحاجة لبرامج تؤكد على تلك المعاني، وتقضي على ذاك التّـدين الـمُـزَيّــف عند البعض ؛ فحينها فقط سترتاح المؤسسات الأمنية والمحاكم من القضايا التي أرهقتها، ونَــزَاهَــة مِـن ملفات الـفَـسَــاد التي تطاردها!

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى