نون والقلم

رمضان في القنوات الفضائية العربية

لم يعد في مقدور الكلمات وحدها أن تكشف أو تشرح أبعاد الواقع العربي ومأساة بعض أقطاره المبتلاة بحروب هي الأغرب والأسوأ في التاريخ، لا سيما وأن الحروب التي تخوضها تلك الأقطار ليست بينها وبين أعدائها الغزاة القادمين إليها من خارج الجغرافيا، وإنما هي حروب مع نفسها مع ذاتها المهزومة المحبطة، مما جعل أبناءها يظهرون – في حربهم هذه – كالمسيّرين أو المنوّمين مغناطيسياً، وباتوا لا يدركون الحق من الباطل والخطأ من الصواب، ولا يدركون أنهم يأكلون أنفسهم وينهشون في اللحم الحي للوطن ببطء حيناً، وبوتيرة شديدة التسارع أحياناً، والدليل ما نراه ويراه معنا العالم بأسره على مدار الساعة من قتل وتدمير لا يعرف التوقف، ومن انقياد غير مسبوق لأحقاد ما كانت في حسبان الآباء والأجداد في جميع تلك الأقطار النازفة دماً ودموعاً وهجرة إلى المجهول لمن استطاع أن يهرب من الموت المحقق إلى موت محتمل.
ذلك باختصار بعض ما يجري في الواقع العربي من حرائق وهو ما لا يعكس نفسه في المواقف البلهاء لوسائل الإعلام والقنوات المتلفزة على وجه التحديد، حيث يتجلى البون شاسعاً في هذا الذي تقدمه صباح مساء من مسلسلات وأفلام في منأى عمّا يحدث في الواقع من حرائق تتصاعد روائحها المقزّزة لتغطي وجه الأرض. ويمكن للدارس تصنيف ما تقدمه الشاشات العربية الصغيرة من أعمال درامية تحت اللافتة الرمضانية إلى مستويين اثنين: أحدهما عابث ومستهتر بالمناسبة الروحية ولا علاقة له بها ولا بما يحدث في الواقع اليومي، والمستوى الآخر تكرار وإعادة غير موفقة لموضوعات مبتذلة تتجاهل الواقع ولا تمت إليه بصلة، وكأنها تعكس أوضاع مجتمعات أخرى أو مجتمعات لا مكان لها على وجه هذه الأرض، أعني أرضنا بكل ما تمور به من صراعات وحروب ومجاعات وهجرات انتحارية، وكان من شأنها جميعاً أن تشكّل مادة خصبة للكتابات الموضوعية التي تسعى إلى أن تسهم في وضع الإنسان العربي إزاء صورة ما يجري وما سوف يجري.
وما يبعث على الفخر المنزوع من جوهره الصحيح، أن القنوات الناطقة بالعربية تجل عن الحصر، ويضاف إليها كل يوم جديد، وكان في مقدور عدد منها فقط أن يعالج حاضر الأمة ويستشرف مستقبلها، ويعيد إلى أبنائها – من خلال الكلمة والصورة – ما افتقدوه في رحلتهم الراهنة من قيم التضامن وأخلاقيات التعايش. وفي ماضينا القريب كما في ماضينا البعيد بما فيه العصر الجاهلي ما يؤكد على الترابط والتضامن والشعور بأهمية التوحد عند الخطر، ولم تكن معارك «داحس والغبراء» التي صارت النموذج الأقرب لحاضرنا سوى أحداث استثنائية عابرة في سياق تاريخ مملوء بالإحساس الوطني والشعور القومي. وفي الشعر الذي أنتجته تلك المرحلة ملاحم وبطولات ووصف عميق للمعارك التي دارت بين العرب وأعدائهم منذ وقت مبكر وفي مدونات الأعداء أنفسهم ما يشير إلى تلك المعارك وما رافقها من اشتداد وعنف المقاومة، وفي الاقتراب الدرامي من هذا كله ما يدحض المقولات التي تجعل من عصر ما قبل الإسلام صفحة سوداء تتخللها الحروب الداخلية والصراعات القبلية.
لقد ظننت – وبعض الظن في غير محله- أن شهر الصوم المبارك سيغير من رتابة القنوات الفضائية العربية، ويفرض عليها الاستجابة لما يتطلبه الواقع من مسلسلات وبرامج تعيش مع الإنسان العربي وتشاركه آلامه وتنتصر له من نفسه ومن أعدائه، إلاّ أنها واصلت السير في خطها الرتيب غير المستقيم، وأضافت إليه تحت اللافتة الرمضانية مجموعة من الإعلانات عن أساليب الطبخ وأنواع المأكولات المتوفرة في «المولات» و«السوبر ماركت» وهو ما ضاعف اليأس من دور هذه الوسائل وعجزها عن مواجهة المشاكل التي تتفاقم وتأخذ أبعاداً أكبر وأخطر في حياة الأمة كلها، وينبغي أن نعترف لهذه القنوات بأنها نجحت منذ البداية وحتى الآن في الهروب الممنهج والمدروس. وتمادت في تقديم ما تراه يسلي المجتمعات العربية ويلهيها عن واقعها المأزوم والمأساوي. ولم يعد خافياً أن مسلسلات التسلية وبرامج الترفيه قد صارت مبتذلة وغير مقبولة من ملايين المشاهدين الباحثين عمّا يخفف أحزانهم ومخاوفهم، ويؤكد وجودهم في المعترك الدولي العنيف.

 

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى