ليس مسموحاً على الإطلاق، ولا هو مقبولا البتّة، أن ندع «داعش» ينتصر علينا … ولا أقصد بالنصر هنا، المعنى العسكري والأمني للكلمة، فتلك غاية عصية على العصابة المجرمة، مهما طال بها المقام واستطال … لكنني أعني به على وجه التحديد، أن ينجح التنظيم الأكثر دموية، في إثارة فزعنا، ودفعنا لاتخاذ ما لا نرغب به من مواقف وسياسات، وأن نقدم على نسج، ما لا نريده من ائتلافات وتحالفات، وأن نرحّل بعضاَ من عناوين أجندتنا الوطنية باستحقاقاتها المختلفة، أو أن نلجأ لتقليص هوامش حرية الرأي والتعبير، أو نبطئ من مسار تحولنا الديمقراطي، البطيء أصلاً …. إن نجح «داعش» في دفعنا للأخذ بأي من هذه الخيارات والمسارات، يكون قد كسب حربه علينا، حتى قبل أن يخوض أيٍ من معاركها الجدية.
نقول ذلك، ونحن نسمع ونقرأ أفكاراً ومقترحات، تتطاير هنا وهناك، تقترح تعديلات جوهرية في سياستنا الخارجية، وتحالفات جديدة مستوحاة من نتائج «عملية الركبان الإرهابية» وتداعياتها … البعض يقترح تغيير المقاربة نحو سوريا، بالانتقال للحرب هناك، وآخرون يرون اللحظة تستدعي «ضبضبة» الحريات وتعطيل مسار الديمقراطية وتأجيل الانتخابات البرلمانية، طالما أننا في حالة حرب مع الإرهاب.
قد تكون بعض هذه الأفكار، خصوصاً في السياسة الخارجية، متداولة قبل العملية الإرهابية، وجاء التفجير الانتحاري الخسيس، ليشكل مناسبة لإعادة طرح هذه الأفكار من جديد، وهذا أمرٌ مشروع في العمل السياسي … لكن أن تكون هذه الأفكار والمقترحات، قد تأسست على عملية إرهابية واحدة، فمعنى ذلك، أننا نسمح للتنظيم بأن يسجل نقاطاً في ملعبنا على حسابنا ولصالحه، وهذا ما لا يريده أي أردني أو أردنية. أحسب أن بعضاً من مقارباتنا حيال الأزمة السورية، قد باتت بحاجة لبعض المراجعة والتعديل، المسألة هنا ليست مرتبطة بعملية الركبان، والمطالبة بالمراجعة والتعديل، سابقة لآخر أربع عمليات إرهابية ضربت الأردن منذ نوفمبر الماضي، ولقد تناولناها وتحدثنا بشأنها مرات عديدة في العامين الفائتين، أما «عملية الركبان» فتأتي لتعزز المطالبة بما كنا قد ذهبنا إليه من قبل.
من التعديلات المقترحة، الا نقفل الباب في وجه أشكال محتملة من التنسيق الأمني مع الجيش السوري، حتى وإن تطلب ذلك، فتح قنوات للتواصل والتنسيق مع دمشق، فالرهانات على «جبهة جنوبية» و»معارضة معتدلة» لم تصمد يوماً، لا في الشمال ولا في الجنوب، ولا على أية جبهة من جبهات المعارك المفتوحة في طول سوريا وعرضها … تنظيف الجنوب السوري من المنظمات الإرهابية، المعلنة والمستترة، أمرٌ يندرج في صميم «أمننا الوطني»، ولا مجال لمجاملة أحد، من الأشقاء والأصدقاء في هذا المجال.
ومن التعديلات المقترحة كذلك، أن نعمل جدياً على «التفكير من خارج الصندوق» فيما يخص قضية اللاجئين السوريين، كأن نفكر، وبالتنسيق مع دمشق وبقية الأطراف، وبالأخص عبر البوابة الروسية، في إنشاء «مناطق آمنة توافقية»، كنا قد تحدثنا عنها مراراً وتكراراً، لا تفرض على النظام بقوة النار ولا بمنطق الحظر الجوي، بل بالتفاهمات التي يضمنها الوسيط الروسي، فتتحول مساحات واسعة من محافظات سوريا الجنوبية، بعد تحريرها من العصابات الإرهابية، إلى «ملاذات آمنة» يأوي إليها اللاجئون، بدل التدفق إلى الأردن، أو «الاحتجاز» على مقربة من الحدود كما في مخيم الركبان. ومن التعديلات المقترحة، إعادة النظر في سياسة الأبواب المفتوحة أمام اللاجئين السوريين، سيما بعد أن أقفلت تركيا حدودها، وشيّدت أوروبا الجدران والأسلاك الشائكة في وجوه القادمين الجدد منهم … الأردن ضاق بهذه الموجات المتعاقبة من اللجوء، والتي لا يبدو أن لها نهاية … والأردن يتحمل اليوم، ما يبدو أن القارة الأوروبية، قد عجزت عن تحمله، فقامت بما قامت من إجراءات، لا لوقف استيعاب المزيد منهم، بل بإغراء تركيا لاستعادة الكثيرين ممن وصلوا إلى شواطئها، بعد رحلة محفوفة بالجوع والعطش والموت غرقاً.
أما على الصعيد الداخلي، فليس ثمة من منطق على الإطلاق، لا لتقييد الحريات وتعطيل الحقوق، ولا لتأجيل الاستحقاقات تحت أي ظرف من الظروف، خصوصاً الانتخابات البرلمانية كما يقترح البعض… وليس منطقياً على الإطلاق، أن يتمكن البلدان المنكوبان بآفة الإرهاب، وبحروبهما الداخلية وحروب الآخرين عليهما: سوريا والعراق، من إجراء انتخابات واستفتاءات متتالية، فيما يفكر البعض منا، ممن لا يكف عن التغني بنعمة الأمن والأمان، إلى التفكير بإجراءات استثنائية من هذا النوع، تبعث برسائل خاطئة، للداخل والخارج …. هزيمة داعش تكون بتمسكنا ببرامج عملنا وأجندتنا الوطنية، وإجراء الاستحقاقات في أوقاتها المقررة سلفاً.