نون والقلم

حتى الرثاء لم يسلم من الغثاء

أَصبَحَ رَثَاءُ الأموَاتِ مِن قِبَل الأحيَاءِ؛ ظَاهِرَةً للمُزَايدَةِ والاستعرَاضِ، وادِّعَاءِ الوَقَارِ، ولَا أُبَالغُ إذَا قُلتُ: إنَّ هُنَاكَ بَعضًا مِن الكُتَّابِ؛ لَديه مَقَالَاتٌ جَاهِزَةٌ كَتبها في رَثَاءِ أُنَاسٍ، يَتوقَّع مَوتهم قَريبًا، وكُلَّما كَان المُتوفَّى مَشهورًا، كَانت المَقَالَات أكثَر ادِّعاءً، وأوسَع تَصنُّعًا للوفَاء..!

هَذه الظَّاهِرَة -أعنِي الكِتَابة بكَثَافَة عَن المَوتَى؛ والمُتَاجرة بالمَوت- أَزْعَجَت طَائفةً كَبيرةً مِن الأُدبَاء والكُتَّاب، حَتَّى أنَّ بَعضهم طَالب بعَدم الكِتَابَة عَنه بَعد مَوتهِ، كالأَديب السَّاخِر «أحمد رجب» -رَحمه الله- الذي تُوفِّي قَبل سَنتين، حَيثُ قَال في إحدَى مَقَالاته: (أَوصيتُ الأَقرَبينَ بأنْ لَا يُنشرُ نَعي عِند وَفَاتِي، فبَيني وبَينَ صَفحَاتِ الوَفيَّاتِ خصُومةٌ شَديدةٌ، فهي في رَأيي حَقلٌ خَصبٌ للنِّفَاقِ الإدَاريِّ والاجتمَاعيِّ، والنَّصبِ أيضًا، كَأنْ يَكتبُ نَصّابٌ لَا يَعرفُ المُتوفَّى بِضعةَ سطُورٍ حَزينَةً، يَنعى فِيهَا صَديقَهُ ورَفيقَ عُمرِهِ فُلانًا، ثُمَّ يَتوجَّه إليهِ مُعزِّيًا؛ وهو يَنزفُ الدَّمعَ الهتُونَ)..!

إنَّ السُّؤالَ الكَبيرَ الذي يُطرحُ هُنَا، وقَد طَرحتُهُ مُنذ عِشرينَ سَنَةً هو: لِمَاذَا لَا نَكتبُ عَن النَّاسِ؛ إلاَّ بَعدَ أَن يَنتقلُوا إلَى عَالَمِ الآخِرَةِ؟ لِمَاذَا لَا نَكتُبُ عَنهم وهُم أحيَاءٌ يَعيشُونَ بَيننَا، لَعلَّ هَذه الكِتَابَاتِ تَرفعُ مَعنوياتِهم، وتُطيلُ مِن أعمَارِهم؟!

هَذا سُؤالٌ.. أمَّا السُّؤالُ الآخَرُ المُوجعُ والمُؤلمُ فهُو: لِمَاذَا لَا نُكرِّم الأدبَاءَ إلاَّ إذَا مَاتُوا؟ لدَرجةِ أنَّ الشَّاعرَ القرويَّ صَرخَ قَائلاً:

يَا أيُّهَا الأُدَبَا مُوتُوا لِنُكْرِمَكُمْ

إِنْ يَخْبُث العَيْشُ قَدْ تَحْلُو المَنِيَّاتُ

حَسنًا.. مَاذا بَقي؟!

بَقي أَنْ أَصرخَ بأعلَى صَوتِي قَائلاً: يَا قَوم، مَن لَديه كِتَابة عَن أَحدِ الأحيَاءِ فليَكتبها، ليَفرحَ بِهَا هَذا الحَيُّ، ولَا تَكونُوا كالصَّديقِ المُتألِّقِ «أبي الحكم بن عدنان» الذي قَالَ: «لَديَّ مَقالٌ خَطيرٌ عَن «العرفجِ»، ولَنْ أَنشرَهُ إلاَّ بَعدَ مَوتِهِ»..

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى