ليس أوضح من الرسالة الموجهة عبر التفجير الذي استهدف المركز الرئيسي لـ «بنك لبنان والمهجر». لبنان هو المستهدف. ماذا يبقى من لبنان في حال توجيه ضربة قاضية الى النظام المصرفي فيه؟
ان دلّ الاعتداء على احد اكبر مصرفين لبنانييين، وهو مصرف عربي ـ لبناني، على شيء، فهو يدلّ على كميّة الحقد على لبنان واللبنانيين وعلى بيروت بالذات بصفة كونها مدينة استثنائية على المتوسط كانت في الماضي القريب احدى المنارات العربية التي تحلو الحياة فيها.
لا يمكن عزل التفجير، الذي معروف جيدا من يقف خلفه، عن كلّ المحاولات الهادفة الى القضاء على لبنان وذلك منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وسلسلة الاغتيالات والتفجيرات التي تلت. لا يمكن عزل التفجير أيضا عن حرب صيف العام 2006 التي استهدفت تدمير البنية التحتية للبلد بالاستعانة بإسرائيل. ما لم تدمّره إسرائيل والجانب الذي افتعل الحرب معها في 2006 استكمل تدميره الاعتصام في وسط بيروت وصولا الى غزوة العاصمة والجبل في السابع والثامن والتاسع من مايو 2008.
كان الرئيس سعد الحريري مباشرا في خطابه في مجمّع «البيال» وسط بيروت. تحمّل زعيم «تيّار المستقبل» قبل كلّ شيء مسؤولية كل المحاولات التي استهدفت لملمة الوضع اللبناني، حتّى عندما كانت كرامته الشخصية على المحكّ. وشمل ذلك «كأس السمّ» التي تناولها عندما زار بشّار الأسد في دمشق وبات ليلته عنده وهو يعرف جيّدا انّه شريك في جريمة اغتيال رفيق الحريري. كان كلام سعد الحريري والحشد الذي شهده «البيال» تأكيدا لضرورة تفادي الغرق في التفاهات من جهة وعدم إضاعة اتجاه البوصلة بالبحث عن انتصارات وهمية من جهة أخرى.
ما لم يقله سعد الحريري انّ لا شيء يحدث بالصدفة في لبنان وانّ الحملة التي تتعرّض لها المصارف حاليا جزء لا يتجزّأ من الحملة التي تستهدف البلد من اجل تحويله الى مستعمرة إيرانية بكلّ ما لكلمة مستعمرة من معنى. لو لم يكن الامر كذلك، لما كانت واجهته في اثناء زيارته لطهران في العام 2010، عندما كان رئيسا لمجلس الوزراء ثلاثة مطالب. دفع غاليا ثمن رفضه تلبية هذه المطالب الايرانية الغريبة التي جاء بعده من يلبي أولها وهو اعفاء المواطنين الايرانيين من تأشيرة دخول الى لبنان… اسوة بالمواطنين الاتراك!
امّا المطلبان الآخران فكانا توقيع معاهدة دفاع مشترك، أي معاهدة عسكرية، بين لبنان وايران، من دون اخذ في الاعتبار لعلاقات لبنان الدولية وانتمائه العربي، والسماح لإيران بدخول النظام المصرفي اللبناني. كان الهدف من المطلب الأخير وهو الاهمّ بين المطالب الثلاثة، تجاوز ايران للعقوبات المفروضة عليها من المجتمع الدولي، حتّى لو ألحق ذلك ضررا بلبنان.
ما زال قسم من هذه العقوبات المفروضة على ايران سارياً الى الآن رغم التوصل الى اتفاق في شأن ملفّها النووي. هل يعتبر «حزب الله» الذي زادت العقوبات الدولية والعربية عليه بعد اكتشاف الدور الذي يلعبه على غير صعيد خارج الحدود اللبنانية ان ظلما لحق به؟ هل يعتقد انّ تخفيف العقوبات على ايران كان يجب ان يشمله أيضا بصفة كونه لواء في «الحرس الثوري» الايراني وليس فقط ميليشيا مذهبية لبنانية تابعة كلّيا لإيران؟
ليس لبنان من يتحكّم بالقرار الاميركي او بالقرارات العربية التي جعلت من «حزب الله» حزباً «إرهابياً». كلّ ما يستطيع لبنان عمله، وهذا واجب عليه، هو حماية نفسه وحماية نظامه المصرفي في ضوء ممارسات «حزب الله». ليست مهمّة الدولة اللبنانية ولا الحكومة اللبنانية ولا «مصرف لبنان» أي المصرف المركزي، التضحية بالبلد إرضاء لـ«حزب الله» ولما تريده ايران.
استثمرت ايران منذ سنوات طويلة في «حزب الله». استطاعت تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان، علما انّ هناك فئات شيعية واسعة ما زالت تقاوم رافضة ممارسات ايران واملاءات «حزب الله». أظهرت هذه الفئات الشيعية الرافضة لـ «ولاية الفقيه» مدى وعيها لخطورة ما ينفّذه «حزب الله» في البلد. فعلت ذلك عبر الانتخابات البلدية الاخيرة، خصوصا في بعلبك. تقف هذه الفئات في طليعة من يتصدّى لعملية التدمير الممنهجة للبنان. ترى هذه الفئات بكل بساطة ان مصلحتها تكمن في حماية لبنان ومؤسسات الدولة وليس في التحوّل الى أداة إيرانية تستخدم في عملية تفاوض مع «الشيطان الأكبر» او «الشيطان الأصغر» يذهب ضحيتها اللبنانيون ولبنان.
لعلّ اهمّ ما كشفه الانفجار الذي استهدف «بنك لبنان والمهجر» ان لبنان آخر همّ لدى «حزب الله». لبنان بالنسبة الى الحزب ورقة إيرانية لا اكثر. ما دام نشر البؤس واليأس ينفع في اخضاع اللبنانيين، لا مانع لدى الحزب في ذلك. كل المطلوب هو استرضاء ايران ولو كلّف ذلك مقتل مئات اللبنانيين في الحرب التي يشنها النظام العلوي على شعبه… وتهجير عشرات الآلاف من الشبان الى حيث يوجد بلد يقبل بهم.
يُفترض في «حزب الله» ادراك بعض البديهيات. في مقدّم هذه البديهيات ان «بنك لبنان والمهجر» نجاح لبناني وسوري وعربي في آن. هناك لبنانيون مساهمون فيه وهناك عائلة سورية تلعب دورا كبيرا في إدارة المصرف وتوسيعه وهناك مجموعات عربية تمتلك حصصاً في المصرف. هذه المجموعات ليست معادية لإيران بالضرورة. الاهمّ من ذلك كلّه انّه لا يوجد مصرف يحترم نفسه ويحترم زبائنه يخرق القوانين الدولية او تلك التي تفرضها الولايات المتحدة. هل لدى أي مصرف عالمي او لبناني او عربي رغبة في الحاق ضرر بالغ بنفسه من اجل ان يكون «حزب الله» راضيا عليه؟
كشف تفجير بيروت عمق الازمة التي يعاني منها «حزب الله» ومن خلفه ايران التي تسعى الى تدبر امورها بغض النظر عمّا يحل بالحزب. هذا هو بيت القصيد في نهاية المطاف. وهذا ما يطرح العودة الى السؤال البسيط الذي يطرح نفسه منذ سنوات طويلة. هل لدى «حزب الله» هامش للمناورة، حتّى لو كان مجرد هامش صغير، يسمح له بالقيام بعملية نقد ذاتي انطلاقا من انّ لبنان لا يستطيع تعريض نظامه المصرفي للخطر، الّا اذا كان يريد ان يلغي نفسه؟
يمكن لـ «حزب الله» ايذاء النظام المصرفي اللبناني، أي إيذاء لبنان، علما ان النظام المصرفي هو من الأشياء القليلة الباقية من لبنان. هذا ليس غريبا عليه وعلى ممارساته. يمكنه استهداف كلّ المصارف العاملة في لبنان. ما لا يستطيعه هو الانتصار على النظام المالي العالمي. هل لديه القدرة على استيعاب هذه المعادلة البسيطة… أم أن عملية تدمير لبنان، التي يشمل منع مجلس النوّاب من انتخاب رئيس جديد للجمهورية هدف بحد ذاته للحزب ولإيران؟