نون والقلم

«شاهندة» والتاريخ

حاورها الفيلسوف الفرنسي الأشهر «جان بول سارتر» في تجربة «كمشيش» التي ذهب إليها يسأل ويستقصي عمّا قرأ وسمع. لعله فوجئ بالسيدة الريفية الشابة تسأله، وتستقصي منه حقيقة موقفه من القضية الفلسطينية، وعذابات شعبها.
أسئلتها كإجاباتها أوحت بأن هناك شيئاً جديداً يولد في مصر، وأعطت رسالة من عمق ريفها بوحدة المصير العربي.
لم يكن «سارتر» وحده من اهتم بقصة الصراع بين الفلاحين والإقطاع في «كمشيش»، فقد تدفق على تلك القرية المصرية صحفيون وسياسيون ومفكرون غربيون يحاورون أهلها ويحاولون أن يقرأوا فيها ما قد يحدث في مصر غداً. كانت تجربة «كمشيش» مثيرة بصراعاتها وملهمة برسائلها في ستينات القرن الماضي، وبدت «شاهندة مقلد» رمزاً لقضية فلاحيها.
في عام (1966) اغتيل زوجها «صلاح حسين»، وكان الاغتيال تعبيراً عن ضراوة الصراع بين حركة فلاحية ناشئة وإقطاع يطل من جديد بالرصاص.
انحاز جمال عبدالناصر إلى فلاحي «كمشيش» وتحدث في خطاب علني عما جرى ودلالاته، مشيراً أكثر من مرة إلى أن ذلك يحدث داخل دائرة أنور السادات.
بعد رحيله انقلبت المعادلات بالكامل، وتولى السادات بنفسه التنكيل ب «كمشيش»، ونفيت «شاهندة» خارج قريتها مع فلاحين آخرين لثلاث سنوات كاملة، كما جرى هدم النصب التذكاري ل «صلاح حسين»، كأنه حذف من الذاكرة لأي معنى. وكان ذلك تعبيراً عن خلل فادح في بنية «نظام يوليو» سمح بتقويضه من داخله.
بفضل يوليو اكتسب الفلاحون المصريون حقوقاً لا مثيل لها في تاريخهم كله، ومن ثغرات نظامها السياسي جرى الانقضاض على إنجازاتها واحداً إثر آخر.
رغم الانقلابات الحادة في السياسات والتوجهات أثبتت «شاهندة» قدرتها على الصمود. وهبت نفسها بالكامل لقضية الفلاحين، لم تهادن للحظة ولا خلعت ملابس الحداد السوداء مرة واحدة على مدى نصف قرن.
بأية قراءة منصفة فإنها الشخصية النسائية المصرية الأبرز في نصف القرن الأخير من حيث حجم الدور ومنسوب الإلهام. لم يكن لديها سوى «القوة الأخلاقية» في طلب الحق بالحياة والأرض.
وقد اجتازت اختبارات الزمن بانفتاحها على قضايا وطنها وأمتها واستعدادها الدائم لدفع أثمان مواقفها.
في السبعينات غنى باسمها «الشيخ إمام» من شعر «أحمد فؤاد نجم» «يا شاهندة وخبريني» على نسق «يا بهية وخبريني» لطلب الحقيقة ممن يؤتمن ويوثق في روايته.
لم يكن السؤال ل«شاهندة» عمن قتل «صلاح حسين»، فالقصة ليست غامضة كحال «بهية» و«ياسين» في الرواية الشعبية. هو سؤال يحمل إجابته في دعوتها أن تخبر وتروي وقائع التنكيل في سجن القناطر الخيرية، وأن تخبر وتبشر بانفراج قريب. بتعبير «نجم» نفسه ترمز «بهية» «أم طرحة وجلابية» إلى مصر.
رغم أنها كانت في مطلع شبابها، نظر إليها ك «أم لجيل جديد»، ورغم أن تجربتها بالكاد غادرت بدايتها اكتسبت رمزية مبكرة. وقد حاولت بقدر ما تستطيع أن تحافظ على صورتها، المرأة الريفية القوية الملتزمة بقضايا وطنها وأمتها، دون صخب الادعاء.
شاركت في كل الفعاليات الوطنية لدعم روح المقاومة بعد نكسة «يونيو» ومقاومة التطبيع بعد اتفاقيتي «كامب ديفيد»، ولا توجد معركة واحدة تخلفت عنها.
انضمت إلى «اللجنة القومية لمناهضة التطبيع» التي قادتها الناقدة الأدبية الراحلة الدكتورة «لطيفة الزيات» بذات الحماس الذي دعاها إلى زيارات جبهة القتال. قدرتها على الثبات أمام المحن أكسبتها روح المقاتل الذي لا يطلب لنفسه شيئاً.
كان الفرح ضنيناً عليها، فقد استشهد زوجها على يد الإقطاع واستشهد شقيقها على جبهات القتال، واغتيل أحد أنجالها في ظروف غامضة بالعاصمة الروسية موسكو، وعانت طويلاً من التنكيل والتشهير والمرض.
مع ذلك صمدت وقاومت وواصلت العطاء حتى النهاية، فانضمت إلى ثورة «يناير»، وتقدمت الصفوف في «يونيو».
بدت محاولة تكميم فمها باليد أمام قصر «الاتحادية» إشارة رمزية إلى أن حكم جماعة الإخوان إلى زوال وكل شيء قد انتهى. بالنظر إلى التاريخ المصري الحديث فإن قصة «شاهندة مقلد» لم تولد في «كمشيش» ولا انتهت على سرير مرض بأحد المستشفيات القاهرية. قيمة دورها أنه يتصل عند الجذور بالحركة الوطنية الحديثة التي ولدت تحت صدمة «دنشواي» عام (1906).
رغم أن (60) سنة تفصل بين إعدام وجلد فلاحين في «دنشواي» واغتيال «صلاح حسين» في «كمشيش» إلّا أن الجذر واحد. في «دنشواي» نصبت المشانق بعد محاكمات هزلية انتهكت كل قيم العدالة لأربعة من الفلاحين أبرزهم «زهران» على مشهد من أهالي القرية، ونال الجلد اثنى عشر آخرون.‬‬‬ كما تحول «زهران» إلى فكرة أبت الموت وألهمت أدباء وفنانين اكتسب «صلاح حسين» رمزية مقاربة. الرموز في التاريخ يصنعها ناسها بحاجتهم إلى ما يلهم العزيمة أو إرادات التغيير.
«‬رمزية زهران» تحولت إلى طاقة وطنية جارفة ترفض الإذلال والتنكيل بالمصريين، وكان رجلاً شجاعاً تقدم إلى مشنقته بلا وجل. ‬وقد كان دور الزعيم الوطني الشاب «مصطفى كامل» حاسماً في بلورة مشاعر الغضب العام، ووضعها في سياق إعادة الروح للحركة الوطنية المصرية التي تراجعت بقسوة بعد هزيمة الثورة العرابية.
بقدر آخر وفي ظروف مختلفة تحولت «رمزية صلاح حسين» إلى طاقة اجتماعية جديدة لفتت الانتباه إلى قضايا الفلاحين وحقوقهم المهدرة.
ليس مصادفة أن أغلب القيادات الفلاحية، التي تستحق هذه الصفة، تأثرت بتجربة «كمشيش» وقدرتها على بناء الكوادر الكفوءة من حقبة إلى أخرى.
ولا يشك أحد في الدور الملهم الذي لعبته «شاهندة» في اتصال التاريخ عند الجذور، من «دنشواي» إلى «كمشيش» إلى المستقبل.

أخبار ذات صلة

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى