في هذا الشهر الفضيل لن أخادع النفس وأكرر الأدعية والتمنيات المظهرية الروتينية، سواء للأفراد أو الجماعات. سأكون صادقاً مع النفس، وسأجثو على ركبتي وأتوجه إلى رب العالمين، رب العدالة والحق والصدق، رب الرفض للنفاق وللكلمة الخبيثة، وسأذرف الدموع بأن يقبل قلقي وحيرتي، ويغفر لما قد يزل به لساني.
بوجل وخشوع، سأسأل ربي سؤالاً يحيُرني: هل عدالته ستقبل صيام وقيام أي مسؤول أو تنظيم أو فرد يدعم بالمال والسلاح والدعاية الإعلامية، وبكل أنواع الإسناد الأخرى، الجماعات التي تمارس قطع الرؤوس بهمجية البرابرة، وسبي وبيع النساء الأسيرات كالحيوانات في أسواق النخاسة، وشيطنة براءة الأطفال بزجهم في صراعات وحروب لا يفهمونها، وتفجير السيارات المفخخة في الأسواق والمساجد والمآتم، وكل أماكن تجمع المواطنين الأبرياء، فيخالفون بذلك أمراً من أوامر الله (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) الأنعام 151؟ ، ثم يبررون تلك الأفعال، زوراً وبهتاناً وكذباً، باسم الاستجابة لرسالتك السماوية السمحة الرحيمة التي تحرُم تلك الأفعال (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) – المائدة 32؟، من هنا سأسألك يا إلهي، بتواضع المؤمن الحائر: هل عدالتك ورحمتك ومغفرتك، مع كرهك للظلم والظالمين، يمكن أن تشمل مرتكبي تلك الخطايا اللاإنسانية الشنيعة، فيما تقوله آية قرآنك الكريم: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»؟
بِحيرة، سأسأل ربي: هل عدالتك تقبل صيام وقيام أي مسؤول أو جماعة أو فرد أو مالك لمحطة تلفزيونية فضائية يسهم، بالقول أو الفعل، في إشعال نار الفتن الطائفية، بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى، وبين السنُة والشيعة أو أتباع أية مذاهب أخرى، وبالتالي إشغال هذه الأمة عن قضايا تحررها وتنميتها ونهوضها من تخلفها؟
إن أصحاب الفتنة يا إلهي لعبوا بقرآنك وأحاديث نبيك، ففسروهما حسب أهوائهم وتخيلوا ما ليس فيهما، واستعملوهما في صراعاتهم السياسية ومطامعهم الدنيوية، فتاه عبادك عن مقاصدك الكبرى، وعن وحدة دينك وعن وحدة أمة دينك.
بخشوع، سأسأل ربي: هل عدالتك ستقبل صيام وقيام من يدمرون روح عبادة الصيام، فيقلبونه من شهر قبول وممارسة للجوع والعطش، وذلك من أجل أن يشعر الإنسان بجوع وعطش الفقراء والمستضعفين والمهمشين، يقلبونه إلى شهر تخمة واستهلاك مبتذل تبذيري نهم، وإلقاء الكثير الكثير مما يزيد من نعمك في براميل القمامة دون حياء من النفس أو توبيخ من الضمير الديني، وأنت الذي ذممت التبذير يا إلهي؟
بخشوع سأسأل ربي: هل عدالتك ستقبل صيام أو قيام من ينهبون المال العام بغير حق، والأراضي العامة من دون تخويل، وثروات الأرض العامة، بأنانية ولا مساواة، ويكتفون بتوزيع بعض منها ومن فتاتها على من يمارسون الزبونية والولاء الكاذب والسكوت عن قول الحق وممارسة الانتهازية في الحياة العامة؟ يفعلون كل ذلك بينما تعاني خدمات التعليم والصحة والإسكان والثقافة من الشحُ والتقتير والتراجع في الأداء والمستوى.
بوجل سأسأل ربي: هل عدالتك ستقبل صيام وقيام من يتعاملون أو يتصالحون أو يعترفون بأي شكل من الأشكال مع العدو الصهيوني، الذي احتل أرضاً عربية وشرد شعباً عربياً، ويتغاضون عن استمراره في سرقاته اليومية لأراضي ومياه وزرع أهل فلسطين، وعن ممارسته اليومية في قتل وسجن شباب وشابات فلسطين وعن حقارة حروبه وحصاراته لتدمير غزة المستباحة المنكوبة؟ بل ويتناسون أنه يحتلُ المسجد الأقصى بكل ما يرمز إليه من تاريخ وعبادة ومعانٍ روحية، وأنه يسمح لغوغائه ومجانينه استباحة ساحاته المطهرة باسم تاريخ كاذب مبني على أساطير وأوهام وتخيلات.
وسأدعوك يا ربي العادل أن تعجل بعقاب من يصافحون، مبتسمين ويقبلون بحنان، من تقطر من أياديهم دماء الألوف من أهل فلسطين وأرض العرب من المسيحيين والمسلمين، ولا تخطر في بالهم وضمائرهم المشوهة القاسية دموع وأحزان وعذابات نساء وأطفال فلسطين المنهكة.
وبِحيرة الإنسان الذي تشوش الأحداث ذهنه، سأقول لربي العلي العظيم العادل: لقد اخترت أمة العرب أن تحمل آخر رسالاتك الإلهية وتنشرها بين البشر بالمجادلة الحسنة والقدوة والتضحيات إن لزم الأمر، وبالابتعاد التام عن عادات وجهالات القبلية الجاهلية، وسميت رسالتك برسالة الحق والقسط والميزان المؤدَّية إلى السلام الحقيقي والمحبة بين البشر، ووصفتهم بخير أمة أخرجت للناس، إن اتبعوا تلك الرسالة، وبينت أن حمل تلك الرسالة هي مسؤولية كل فرد في هذه الأمة، وبلا استثناء على الإطلاق، لكن هذه الأمة مارست كل ما لا ترضاه من مظاهر الاستبداد في الحكم واللامساواة في الحقوق والخيرات، وعدم الالتزام بقضايا الناس والأوطان في الحياة العامة، وعدم إعمار الأرض وبناء الحضارة المادية والمعنوية لها، وللإنسانية جمعاء. ولقد تضافرت يا إلهي قوى السلطات التي مزقت الأمة، وقوى الفقه المتخلف الذي أدخل الناس في صراعات.
يا إلهي، نحن عبادك نعرف مقدار محدودية فهمنا لآفاق وأسرار عدالتك ورحمتك ومغفرتك وعقابك. لكننا، ونحن نستقبل هذا الشهر الفضيل، نطرح هذه الأسئلة بخشوع المؤمنين الراضين بما تقدر وتقضي، والتي تخطر على بال ملايين المظلومين والمعذبين والحائرين من ساكني أرض العرب الملطخة بالدماء والدموع والقيح، طمعاً في أن تجعل يا رب العالمين هذا الشهر الفضيل شهر هداية لعقولنا وطمأنينة لقلوبنا وبرداً وسلاماً لأرواحنا: أو لم تؤمن؟ قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي.