سقطت ورقة من أوراق التاريخ.
لم يكن محمد علي «كلاي» ملاكماً، هو ليس قبضة وقفازاً وحلبة وفوزاً أو هزيمة، لقد كان أسطورة، نعم، وكان فذاً، وكان إرادة، قبل أن يكون محترف قتال من أجل بطولة أو مال.
كثيرون لا يعرفون عنه غير أنه بطل العالم في الملاكمة، قاهر الأبطال ومحطم الكبار، سمي الفراشة لرشاقته وحركته الدائمة في الحلبة، وسمي النحلة للسعته التي لا يلسعها غيره، وسمي بالأعظم، هو صرخ ذات يوم «أنا الأعظم»، وقد كان.
يوم الأسود والأبيض كانت شوارعنا تخلو من السيارات والناس، الكل يجلس خلف الشاشات منتظراً الحدث الأعظم، لقاء البطل الرمز، ليس لأنه مسلم، بل لأنه إنسان متفرد بميزات لا يملكها غيره في سنوات الستينيات وبداية السبعينيات، كنا نسمع الكبار يتحدثون عنه وهو في السجن، وبعد أن خرج كنا قد وعينا الأمور، وشاهدناه، فأحببناه، وكم أوجعتنا لكمة لامست وجهه، وكم أغضبتنا عنصرية الحكام وهم ينحازون إلى خصومه، وكم تشاركنا في الأفراح وهو يفوز بضربة قاضية لا يردها الذين يواجهونه، أحبه العالم كله، بكل أطيافه ودياناته واتجاهاته، حتى الذين انتزعوا البطولة عنه وحاكموه وسجنوه عادوا ورفعوا قبعاتهم احتراماً وتقديراً له.
عندما رفض الذهاب إلى فيتنام كان «أمة في رجل»، هو وحده، هو بموقفه وقراره، لم يحتج إلى تنظيم مسيرات، ولم يشكل تنظيمات للمظلومين والمضطهدين وضحايا العنصرية البغيضة، هو وحده شكل إعصاراً في وجه فكر التمييز العنصري، ورفض أن يذهب إلى أقصى الأرض ليشارك في قتل شعب لا يعرفه ولم يضره كما قال، رفض لأنه أراد أن يقاتل من أجل بني جلدته الذين تحتقرهم قوانين بيضاء كريهة، ولم يوقع أوراق التحاقه بالجيش، وتنازل عن المكانة والملايين وقبل بالزنزانة مصيراً من أجل قضية إنسانية.
يوم أمس الأول بكيت عزيزاً، محمد علي «كلاي» قريب رحل، وكما فرحت يوم فاز في 1970 ذرفت دمعة وأنا أقرأ خبر وفاته، ربما كنت أبكي الرجال في زمن قل فيه الرجال، وربما كنت أبكي التاريخ.