في اللحظات التي كانت تشهد الاستعداد لتحرير مدينة الفلوجة العراقية من قبضة تنظيم «داعش» ظهر قاسم سليماني ظهوراً سريعاً على أطراف المدينة العراقية المبتلاة بالنكبات منذ عقد ونصف العقد تقريباً، تاركاً وراءه سحباً من التوتر والتوجس والغضب الذي حوّل جزءاً من المناقشة الدائرة حول تحرير الفلوجة نحو الحديث عن هذا الظهور المنذر بالشرور.
لا نتحدث هنا عن أذرع «الحرس الثوري» الإيراني التي تعبث بالعراق، على رغم التأثير الكارثي لها، ولا نتحدث هنا عن القوى العراقية التي تجعل إرضاء طهران وتنفيذ أوامرها هدفاً لها وليس العراق ومصلحة العراقيين، ولا نتحدث هنا عن الزعماء السياسيين والدينيين الذين ارتضوا بأن يجعلوا العراق العربي بكل ثقله وإمكاناته وقدراته مجرد ورقة لعب تستخدمها إيران في اللحظة التي تراها ملائمة.
لا نتحدث عن «دور» قاسم سليماني، بل عن «إطلالة» قاسم سليماني في ذلك الوقت تحديداً. ولنا أن نسأل: هل كان هناك ما يمنع أن يمارس قاسم سليماني مهماته تحت غطاء السرية الذي يتقنه؟ لقد اعتادت إيران على أن تتحرك في الظلام وتثير القلاقل والمشكلات من وراء ستار، كما تفعل في البحرين واليمن ولبنان وفي كل مكان يمكنها فيه أن تصطنع أتباعاً وموالين، ولذا يجب أن يُنظر إلى السلوك العكسي بالإعلان الصارخ عن وجود قاسم سليماني بصفته عملاً مقصوداً تماماً وله أهدافه المحددة التي لا يحققها العمل في الظلام.
هدف ظهور قاسم سليماني هو إسباغ الظل الطائفي الكريه على مجريات الأحداث العراقية في لحظة مشتعلة، وممارسة مزيد من الضغط على السُنة العراقيين الذين يساندون جهود التخلص من «داعش»، ويشاركون فيها كما شاركوا من قبل في التصدي لموجات متوالية من الإرهاب، من خلال تجارب «الصحوات» ومن خلال الانتفاضات العشائرية ضد طغيان «داعش» ووحشيته، إذ سيشعر كثير من هؤلاء السُنة بأنهم يخوضون حرب سليماني وليس حربهم، وأن الاعتبارات الوطنية التي يُعلونها فوق الاعتبارات المذهبية وهم يواجهون «داعش» ستُجيّر في النهاية لمصلحة جماعات طائفية أخرى لا تقل تطرفاً وسوءاً.
كثير من سُنة العراق المتحمسين للقضاء على «داعش» ستساورهم الشكوك في شأن المعركة الجارية، استناداً إلى تجارب سابقة تمخضت عن تعرضهم للقتل والتعذيب والتهجير والتشريد، وأسفرت فيها الميليشيات الطائفية عن وجهها القبيح، وهذا جزء مما يريده سليماني ومَن وراءه، إذ يمكنهم استغلال هذا القلق المشروع في كيل الاتهامات إلى سُنة العراق بأنهم يمثلون حاضنة لـ «داعش»، ويوفرون له الحماية والدعم.
من قواعد النصر في أي معركة كسب مزيد من الحلفاء وإيجاد نقاط للتلاقي وتأجيل الخلافات والتباينات في وجهات النظر إلى مراحل لاحقة، وهذا الأمر البديهي كان يقتضي كسب السُنة العراقيين بشكل كامل إلى جانب الدولة وقواتها المسلحة التي تقودها الاعتبارات الوطنية وحدها، ومثل هذا السلوك يضمن للقوات العراقية التي تخوض الحرب ضد «داعش» مزيداً من القدرات البشرية القادرة على القتال، ومزيداً من الدعم من جانب السكان المحاصرين تحت حكمه الوحشي، والذين يمكنهم في وقت معين أن يقدموا مساعدات كبيرة ومهمة لتقصير أمد المعركة وتقليل خسائرها وتكاليفها.
العكس هو ما وقع، وكان ظهور قاسم سليماني هو الحدث الأكثر رمزية في هذا الجانب، فلم تكن هناك رسالة أكثر سلبية وإحباطاً، وتعزز ذلك بالصور اللاحقة التي أظهرت سليماني مع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وهو من قاد العراق خلال ثماني سنوات، تعمقت خلالها أزمته، وتفاقمت صراعاته ومشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستشرى فيه الفساد، وتصدّع ما تبقى من تماسكه الوطني، وأضحى دولة فاشلة على وشك السقوط. وكانت السياسات الطائفية لنوري المالكي أحد أسباب هذا الفشل الذريع، وإذا ثبتت صحة اللقاء الأخير بين المالكي وسليماني فإنها ستكون عودة لرئيس الوزراء الفاشل من الباب الطائفي نفسه.
الحاجة المتبادلة بين المالكي وسليماني هي حاجة طبيعية، لأن الأول رمز للفساد والثاني رمز للطائفية، والكارثتان مرتبطتان أشد الارتباط، فتأجيج الهوس الطائفي وإعلاء كلمته والنفخ في نار التعصب سلوك يمكن إشهاره كلما علت الأصوات المطالبة بالمحاسبة والشفافية، والقضايا الحقيقية المتعلقة بالإصلاح وإيقاف نزف النهب والرشاوى والمحسوبية والاستيلاء على المال العام واستبعاد الكفاءات، كلها يمكن أن تخفت وتتوارى أمام صناعة الفتن المذهبية وتغذية غرائز العدوانية والكراهية والتوجس. والمالكي الذي صُنف العراق في عهده في المرتبة السادسة بين الدول الأكثر فساداً في العالم هو أولى الناس بالظهور مع قاسم سليماني، لأن أمثال المالكي هم من يحققون أهداف إيران بحذافيرها.
إن جزءاً كبيراً من مشكلة العراق يعود إلى إعلاء اعتبارات المذهب فوق اعتبارات المواطنة، وتغليب منطق الطائفة فوق منطق الدولة، وتستثمر إيران كل أدواتها وتابعيها في العراق لكي يستمر الوضع على حاله، لأن في ضعف العراق قوة لإيران، وفي استمرار حال الفوضى فيه ضمان للنفوذ الإيراني الذي يريد هيكلة المعادلات الإقليمية على النحو الذي يحقق مصالح قومية مفرطة في أنانيتها وعنصريتها.
وسليماني بظهوره في الفلوجة لا يمارس لعبة جديدة خاصة به، نابعة من تطرف شخصي أو طريقة يعتمدها هو في إدارة الأمور، بل ينفذ سياسة إيرانية راسخة، وهي رش الملح على الجراح الطائفية في العالم العربي، واستحضار المذهبية المقيتة، وإبرازها في كل حدث وفي كل مناسبة. وفي الوقت الذي تسعى دول الخليج إلى ترسيخ المواطَنة بمعناها الحديث، باعتبارها أساساً للدولة التي يغلب الولاء لها والانتماء إليها على كل الولاءات، فإن إيران تبذل كل ما بوسعها لتبقى كلمة الطائفية هي العليا، وهذا يفسر جزءاً من الأزمة التي تعيشها المنطقة.
من مصلحة العراق أن تجتمع الكلمة بين كل مكوناته وأطيافه على التخلص من الخطر الداهم المتمثل في «داعش»، لكن إيران لا تريد للكلمة أن تجتمع، وتعتبر أن نجاحها الحقيقي يكمن في تحويل مواجهة «داعش» إلى حرب بين السنة والشيعة، ولا تريد لها أن تتخذ شكلها الحقيقي، وهو أنها حرب بين الدولة بكل مكوناتها وجماعة إرهابية لا تُعبِّر إلا عن نفسها، ولا يقل عن ذلك خطورة أن إيران تسعى إلى أن تجعل سنّة العراق جميعاً مرادفين لـ «داعش»، ووضعهم في مربع الاتهام بالتطرف والإرهاب.
العراق بكل مكوناته يدفع ثمن هذا التحريف الإيراني لطبيعة المواجهة الجارية في الفلوجة وما سبقها في مدن ومناطق أخرى، وما سيتلوها وصولاً إلى معركة الموصل. والتكاليف الباهظة لا تفرق بين عراقي سني وعراقي شيعي، فالجميع خاسرون في النهاية.
ظهور قاسم سليماني إشارة إلى أن ما ينتظر العراق حتى بعد إخراج «داعش» من الفلوجة ومن غيرها لا يبعث على الاطمئنان، وإلى أن الظل الكئيب للطائفية التي تهيئ إيران أسبابها سيبقى جاثماً على صدور العراقيين طويلاً.