مرة أخرى، تكشف الحرب على تنظيم «داعش» الإرهابي، سواء في سورية أو في العراق، مدى التمزق الذي أصاب البنية السياسية والأمنية في هذين البلدين.
فبينما كان طبيعياً أن تتولى القوات المسلحة لجيشي هذين البلدين حماية أبنائهما وقيادة الحرب على «داعش»، نجد، سواء في معركة الفلّوجة أو في تلك الدائرة في منبج السورية، غير بعيد عن «عاصمة داعش» في الرقة، أن قيادة هذه الحرب هي في يد «الحرس الثوري» الإيراني في حالة العراق، وفي يد «قوات سورية الديموقراطية» المؤلفة أساساً من وحدات كردية، تخوض المعارك في الشمال السوري، فيما السنّة العرب يقفون ضحايا على الجانبين، متهمين بالولاء لـ «داعش» أو بعدم مقاومته، مثلما يجري الحديث عنهم في الفلّوجة، أو بالتحالف معه ضد نظام بشار الأسد، مثلما أصبحت التهمة التي يروّجها هذا النظام الذي يصنف معارضيه جميعاً في خانة الإرهابيين.
ومن مفارقات التغيير الجيوسياسي الجاري على الساحة العراقية أن مدينة الفلّوجة التي دفعت الثمن الأغلى في مواجهة الغزو الأميركي للعراق تدفع اليوم ثمن هذه الحرب المفروضة عليها، بعدما تحكّم تنظيم «داعش» برقاب أهلها، في غفلة عن الحكومة العراقية أيام نوري المالكي، وبتواطؤ من الجيش العراقي الذي انسحب من المناطق التي كان من واجبه الدفاع عنها وحماية أهلها (العراقيين) وتركها لقمة سائغة في يد الإرهابيين. وبدل أن يدافع هذا الجيش عن خطئه ويصحح ما ارتكبه سابقاً من خلال تقدمه هو لإنقاذ الفلّوجة، نجد أن هذه المهمة موكلة في شكل أساسي للجنرال قاسم سليماني و»حرسه الثوري»، فيما رئيس حكومة العراق حيدر العبادي والقوات المسلحة التي يفترض أن تكون بإمرته تكتفي بتنفيذ أوامر العمليات القادمة من طهران.
تحالف أميركي إيراني لمحاربة «داعش» في الفلّوجة. ولكن ماذا بعد ذلك؟ وماذا سيحل بهذه المدينة بعد أن يتم تحريرها من قبضة التنظيم؟ ولمن ستكون الغلبة في النهاية؟ هل هي للجيش العراقي أم لـ «الحشد الشعبي» الذي يتولى اليوم في شكل أساسي عملية اقتحام المدينة ويتصرف مع أهلها، كما فعل سابقاً في تكريت، على أنهم كلهم «داعشيون» طالما أن ولاءهم ليس لطهران، وهي التهمة التي أطلقها أوس الخفاجي قائد «قوات أبو الفضل العباس» بحق أبناء الفلّوجة، فقال إنه «لا يوجد وطنيون عراقيون في الفلّوجة ولا متدينون، كلهم إرهابيون. وهذه فرصتنا لتنظيف العراق من السرطان الموجود في الفلّوجة». هذا الكلام الطائفي والعنصري استدعى تدخل المرجع الشيعي علي السيستاني الذي دعا إلى وقف اقتحام الفلّوجة في ظل هذا التحريض الذي يُخشى معه من ارتكاب مذابح في المدينة على يد مقتحميها، بعدما حوّلهم «داعش» إلى دروع بشرية ليحتمي بهم لإبقاء سيطرته عليها.
صورة بائسة لمستقبل العراق لا تختلف عن البؤس المحيط بصورة المنطقة عموماً. إرهابيون من هنا وطائفيون من هناك، وتفكك عميق للمجتمعات والدول يصعب معه العثور على أي ضوء في نهاية هذا النفق الأسود. وما صور الهاربين من جحيم الفلّوجة عبر نهر الفرات إلى المجهول داخل بلدهم إلا نسخة أخرى عن صور اللاجئين والهاربين من الحرب السورية، تلك الصور التي ملأت الشاشات على مدى الشهور الماضية. وإذا كان هؤلاء يطمعون بملجأ أوروبي يحميهم، فإن الهاربين من حرب الفلّوجة يخشون من ضيافة «أهلهم» في بغداد بقدر خشيتهم من جحيم «داعش» الذي تمكنوا من الفرار منه.