نون والقلم

التنافس الحقيقي بين الصين وأمريكا

كل الحضارات الكبرى في العالم الحالي تواجه أزمات. وكلها منخرطة في المنافسة، لترى أيّها قادرة على أن تكون الأولى في الخروج من تلك الأزمات عن طريق الإصلاحات، لأن الفائزين سيكونون قادة الحضارة العالمية خلال هذا القرن.

والقضية بين الصين والولايات المتحدة، لا تخرج عن هذا الإطار. فالتنافس الحقيقي بين البلدين، لا يكمن في تدويل الرنمينبي (العملة الصينية)، ولا في اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ»، بل في مَن تستطيع منهما أن تحُلّ قضاياها المحلية عن طريق الإصلاحات المؤسّسية.

الولايات المتحدة منخرطة في مقارعة مشاكلها، إذ تشهد البلاد حملة انتخابية رئاسية مشوّشة، واحتجاجات متكررة في الشوارع وفي باحات الجامعات. والسبب الأساسي لذلك هو التأثير الذي خلفته العولمة على المجتمع الأمريكي خلال العقود الثلاثة الماضية. كما أن على البلاد ترسيخ نظام الرعاية الاجتماعية الأساسية، والارتقاء به، للحدّ من نتائج النظام غير الناجح الذي طُبِّق خلال هذه الحقبة من العولمة. وهذا يستدعي حتماً تحصيل مزيد من المساهمات الضريبية ممّن جَنوْا الأرباح خلال الحقبة ذاتها، ولا سيّما في عالم المال في وول ستريت. فالحكومة الأمريكية تتلقى 75% من عائداتها الضريبية من الضرائب الشخصية، ولكن الضريبة الشخصية سبب أساسي لاستقطاب الثروة، بدلاً من أن تكون عامل استقرار، بالحدّ من الفجوة الاجتماعية التي يخلقها التفاوت في الدخل. فالأفراد المتنفذون في وول ستريت، يكسبون معظم دخلهم من تنمية رؤوس أموالهم، وينعمون في الوقت ذاته بمعدلات ضريبة منخفضة لا تتجاوز 5%. وعلى النقيض من ذلك، يتراوح معدل ضريبة الدخل، بين 25 و30%، أو يبلغ حتى أعلى من ذلك في بعض الأحيان، فيكون سبباً للاستياء العام.

وفي المجتمع الأمريكي الذي يُكنّ احتراماً شديداً للحرية وقيمة الفرد، يبرُز رجال موهوبون، مثل بيل غتيس، وستيف جوبز، ولكن توجد أيضاً فئة مشردة، عاجزة، منخفضة الدخل، تحتاج إلى الأخذ بيدها. وفي المقابل، تشهد أوروبا وضعاً مناقضاً، يتسم بالارتفاع الشديد في مستوى الرفاه الاجتماعي. ففي الظروف العادية يذهب 40% من إجمالي الناتج المحلي في الدول الأوروبية للإنفاق الحكومي، ويذهب نصف الإنفاق الحكومي للرعاية الاجتماعية. ومعظم الدول في أوروبا، باستثناء ألمانيا، في حاجة إلى إصلاحات ثورية في أنظمة الرعاية الاجتماعية. والسبب الأساسي في أن ألمانيا نجحت في أن تظل صامدة وسط الأزمة العالمية الخانقة، هو سلسلة الإصلاحات في الرعاية الاجتماعية، التي أجراها المستشار السابق جيرهارد شرودر في تسعينات القرن الماضي.
والولايات المتحدة اليوم، في حاجة إلى إصلاحات جذرية لدعم الفئات الضعيفة، وتحسين الرعاية الاجتماعية الأساسية، وتخفيف حدّة الصراعات الاجتماعية. وحينما نتأمل الوضع لدينا في الصين، نجد أن بلادنا أيضاً تعاني صراعات اجتماعية. وعلينا أن نواجه هذه القضايا بصورة مباشرة، وأن نبتكر في ذلك النهج الذي يلائمنا، ونخرج بأفكار جديدة، تشمل الجوانب الثلاثة الآتية:

أولاً، نحن في حاجة إلى اقتصاد سوق حديث، معدّل بصورة ملائمة. وفي هذا الجانب، ألمانيا هي المعلّم لنا. فقد أصبح اقتصاد السوق الحديث، مقبولاً على نطاق واسع.
ثانياً، يجب ترسيخ فكرة النظام وسيادة القانون. وفي هذا الجانب، الولايات المتحدة، هي المعلِّم. فما دام النظام القانوني يبادر إلى التدخل، فسوف يقبل معظم الناس النتيجة.
ثالثاً، يجب أن تكون ثمة مجموعة من النخب الحاكمة، تتسم بالمثالية، والتقيّد بالنظام، وامتلاك الحافز للعمل. وفي هذا الجانب، سنغافورة هي المعلِّم. ويجب أن يكون لدى النخب غايات سامية، لأن ذلك هو السبيل الوحيد إلى ترسيخ الثقة بها بين صفوف المجتمع، وبقائها نقية من الفساد.
فإذا استطاع الإصلاح في الصين، أن يحقق اختراقات في المجالات الثلاثة الآنفة الذكر، فسوف تحقق الصين التحديث في جميع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية.
وبوسْع التعزيز الشامل في الصين أن يكون من بين الأفضل في العالم، وأن تكتسب الحضارة الصينية جاذبية أكبر.

 

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى