في العمق، لا تختلف اللائحتان البلديتان الرئيستان المتنافستان في طرابلس كثيراً. ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما بكثير وإن اختلفت مفردات الدعاية الانتخابية واتخذت واحدة منهما شعار التوافق فيما لجأت الثانية إلى التشدد في مواجهة تمدد قوى تحالف الثامن من آذار (مارس).
لم يُكتب للمجتمع المدني في العاصمة اللبنانية الثانية النجاح في تقديم نموذج مشابه لذلك الذي قدمته لائحة «بيروت مدينتي» وعدد من اللوائح في مدن وبلدات لبنانية مختلفة حتى ضمن محافظة الشمال التي تشكل طرابلس مركزها. لوائح تقوم أساساً على الاعتراض على إفلاس الطبقة السياسية التقليدية وعلى إيلاء الأولوية للعمل الإنمائي في وجهه المهتم بالسكان وبالتعارض مع آليات السيطرة الحزبية والعشائرية وما أفضت إليه من تماس مع انهيار الخدمات العامة ومؤسسات الدولة.
التوافق الذي قدمته الأحزاب والتيارات المعروفة في لائحة «لطرابلس» يعكس إصرار السياسيين المكرسين كزعامات للمدينة على إبقاء الحال على ما هو عليه في أفقر مدينة على شاطئ المتوسط حيث تتراكم عوامل الاحتقان الاجتماعي والطائفي وحيث يتاح للجماعات السائدة التلاعب بالبؤس المقيم تارة على شكل انتحاريين يتوجهون إلى «دولة الإسلام» الداعشية وتارة من خلال الإمساك بمصائر مئات الآلاف من الطرابلسيين الفقراء من خلال جمعيات خيرية ترشي الجمهور بفتات موائد الزعماء وتبقيه رهينة لأيام الانتخابات.
من بين الأهداف شبه المعلنة للائحة هذه التصدي لمحاولة وزير العدل اللواء أشرف ريفي بناء زعامة جديدة في المدينة المكتظة أصلاً بالزعامات. ويدعم ريفي لائحة «قرار طرابلس» التي أوحت بحملها أفكار المجتمع المدني والمواطنة والتغيير. بيد أن المواقف التي يطلقها ريفي صريحة في تبني لغة حربية ضد «حزب الله» وأنصاره في طرابلس خصوصاً جماعة «الحزب العربي الديموقراطي» في منطقة بعل محسن، واتهامية في وجه لائحة التوافق مشدداً أنه «لن يسمح لبعض قوى 8 آذار بالتسلل إلى طرابلس»، ملمحاً إلى وجود مؤيدين لتياري المردة والوطني الحر على لائحة «لطرابلس» التي يبدو أنها ستنال تأييد «العربي الديموقراطي».
قليل الأهمية من بدأ المعركة البلدية. وسيان إذا كانت لائحة «لطرابلس» شنت حرب إلغاء على ريفي أو أن «قرار طرابلس» تفتعل صراعاً لم تكن المدينة في حاجة إليه، رغبة من ريفي في تعزيز موقعه كمرشح مقبل للانتخابات النيابية أو ما يزيد على ذلك. ذلك أن الخلاف بين هذه الزعامات لا ينطوي على تباين جدي في الشأن الإنمائي الذي يرفع راية الإخفاق العميم ليشاهدها كل مار في شوارع المدينة ناهيك عن حاراتها الداخلية التي تأوي بعضاً من أفقر الفقراء في لبنان فيما لم تعرف مبانيها ومسالكها الصيانة والاهتمام اللازمين منذ العهد المملوكي.
معركة الأحجام والمواقع، على ما أطلقت عليها الصحف باعتبارها سترسم المستقبل السياسي لريفي أولاً ولمجمل توزيع الإرث الحريري على سنّة الشمال ثانياً، لن تحمل للطرابلسيين القاطنين في حواري البؤس والفقر أي أنباء طيبة بغض النظر عن نتيجتها.
في أحسن الأحوال، سيضاف زعيم جديد إلى قائمة زعماء المدينة المنهكة والتي ما زالت تعاني من جراح جولات الاقتتال السابقة وتنظر بقلق إلى الأيام المقبلة. وكأن هذه المدينة مصابة بلعنة لا تبارحها إلا لتعود أشد وأعتى.