نون والقلم

التاريخ يعود للوراء..أحياناً

التاريخ لا يعود إلى الوراء، هذا على الأقل ما تؤكده المسيرة التقدمية للجنس البشري منذ أن شرع الإنسان في إعمار الأرض. ولكن بعض الدوائر في العواصم المفتاحية لصناعة القرار الدولي، تعمل بكل ما أُوتيت من قوة وطاقات، على إثبات عكس ذلك. وقد «أهدى» منتصف القرن العشرين الماضي للعالم مجنون العظمة أدولف هتلر الجامح والطامح لما أسماه «ألف عام للرايخ الألماني».
ومن حسن حظ البشرية أن تُكتب لها حياة جديدة بزوال كابوس ألف عام من «القنانة» الهتلرية. ولكن تهديد الطامحين والطامعين في إعادة إنتاج ومقاربة الأحلام الإمبراطورية الكونية سرعان ما عاد بدفع من دغدغاته للذين ما فتئت نفوسهم تحدثهم وتسوّل لهم بأن تلك «الأسطورة» ما زالت ممكنة التحقيق، مع بعض «التعديل والتحسين» في الوسائل. في العام 1997 أسس وليم كريستول وروبرت كاغان ما سُمي ب«مشروع القرن الأمريكي الجديد» كخزان أفكار للمحافظين الجدد في العاصمة واشنطن، يركز على ترويج القيادة العالمية الأمريكية في السياسة الخارجية الأمريكية، باعتبارها عنصراً نافعاً للولايات المتحدة وللعالم على حد سواء، وتدعيم هذا التوجه بالأداتين العسكرية والدبلوماسية الناعمة. علماً بأن 10 شخصيات من ال25 شخصية التي وقعت على مبادىء هذه المؤسسة الموسومة في بيان تأسيسها، عملت في إدارة الرئيس جورج بوش الابن، بمن فيهم ديك تشيني، ودونالد رامسفيلد، وبول وولفوويتز، وكذلك فرانسيس فوكوياما، وزلماي خليل زاد، وجيب بوش، شقيق الرئيس جورج دبليو بوش. حيث لعبت هذه الشخصيات وغيرها، دوراً محورياً وخطراً في صياغة وتطبيقات السياسة الخارجية الأمريكية على مدار ثماني سنوات هي عمر ولاية الرئيس السابق جورج بوش، لاسيما منها قرار شن الحرب على العراق. وفي عام 2006 تم إغلاق «مشروع القرن الأمريكي الجديد»، وقام المؤسسان ذاتهما، وليم كريستول وروبرت كاغان، في عام 2009 باستبداله بخزان أفكار جديد أسمياه «مبادرة السياسة الخارجية»، وفي الأجندة التي وضعها خزان أفكار «مشروع القرن الأمريكي الجديد»، وورويثه «مبادرة السياسة الخارجية»، كدليل للسياسة الخارجية الأمريكية، سوف نجد النفَس الهجومي الهيمني العالمي نفسه، الذي عنون الخطاب الهتلري الإمبراطوري العالمي. فلقد سطر رواد المؤسستين الأمريكيتين المتطرفتين في بيان تأسيسهما الخطوط الأساسية للهيمنة الأمريكية على العالم، والتي جاء في أحد نصوصها أن «الهيمنة الأمريكية هي السلاح الأكثر نجاعة واعتمادية لحفظ السلام والنظام الدوليين، وإنه لذلك يصبح الهدف المناسب للسياسة الخارجية الأمريكية متمثلاً في المحافظة على هذه الهيمنة إلى أطول مدى مستقبلي ممكن. ولتحقيق هذا الهدف فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى سياسة خارجية جديدة بروح ريغانية (نسبة إلى الرئيس الراحل رونالد ريغان)، قائمة على التفوق العسكري».

والحال أن هذه «الروشتة» لخريطة طريق الولايات المتحدة لتأمين هيمنتها التامة على العالم، التي وضعتها المؤسستان المحافِظتان سالفتا الذكر، ما زالت سارية المفعول في السياسة الخارجية لإدارة الرئيس باراك أوباما تحت مسمى مغاير قليلاً في الشكل، وهو «تعزيز القيادة الأمريكية العالمية بالتصميم والعزم وبالقوة العسكرية إذا اقتضى الأمر».
فكيف يمكن لهذه العقول الحربية «النيِّرة»، وقد نجحت في تمرير معتقداتها حول الهيمنة العالمية إلى حواضنها المستهدفة، وهي هنا الرؤوس الحامية المتحفزة دوما لشن الحروب اغتناماً للأرض وما عليها – كيف لها أن تعير أدنى التفاتة لشيء «تافه» (في قاموس فلسفتها العدمية طبعاً) اسمه الضمير الإنساني؟

فهذه الرؤوس الحامية هي بالذات التي استباحت العالم وجعلته اليوم أكثر هشاشة أمام كل التحديات، من الفقر والبطالة والتشريد والتهميش والافتتان والاحتراب الاهلي والمجاعة والمرض، وصولاً إلى انفجار مشكلة اللاجئين في كل بقعة من بقاع العالم التي أصابتها لعنة الفوضى الخلاقة التي أطلقتها تلك «الصفوة» الحاكمة، والتي نجحت في مركزة واحتكار السلطة على مدى عقود، في إعادة إنتاج فارقة لنمط وممارسات حكم الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية السياسية الفيودالية (Feudalism) التي كانت سائدة خلال الفترة من القرن التاسع، وحتى القرن الخامس عشر في أوروبا العصور المظلمة وبقية العالم، والتي تميزت بغياب مفهوم الدولة والمواطنة، وانتشار مجموعة من التقاليد والأعراف وأساليب العيش التي حكمت العلاقات بين السيد الإقطاعي والأقنان المرتبطين بالأرض.

فلاغرو أن يحرص الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون على تذكير العالم بأن أمريكا هي وحدها من تقود العالم، وهي وحدها من يقود المبادرات، ويتزعم الوساطات، ويقرر التدخلات في العلاقات الدولية، من مونرو (مبدأ مونرو بيان أعلنه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو في رسالة سلّمها للكونغرس الأمريكي في 2 ديسمبر 1823، اعتبر فيه كل القارة الأمريكية منطقة مغلقة لبلاده تتصرف بها من دون أي تدخل من الأوروبيين. فأعطى الحق لنفسه بإدارة شؤون القارة، واستثمار ثرواتها، وإقالة حكوماتها، وتنصيب من ترغب على كراسي الحكم، وافتعال الحروب الأهلية، وتقسيم الدول إذا لزم الأمر. وبموجب سياسة «العصا الغليظة» هذه، أرسلتْ الولايات المتحدة جيوشها إلى جمهورية الدومنيكان في عام 1905، وإلى نيكاراغوا عام 1912 وهاييتي عام 1915. مروراً برؤساء أمريكا المتعاقبين، جمهوريين وديمقراطيين على حد سواء. نعم، إن التاريخ يمكن أن يعود للوراء أحياناً!

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى