نون والقلم

الاندفاع نحو لحظة الحسم في العراق

المشهد السياسي العراقي يندفع بقوة نحو لحظة الحسم بعد أن جرى اقتحام المنطقة الخضراء للمرة الثانية خلال ثلاثة أسابيع، ما يميز الاقتحام الثاني في العشرين من الجاري هي «الدماء» التي سالت، والتي نقلت الأزمة العراقية إلى طور جديد في مستوى المواجهات بين الشارع الغاضب وحكومة العبادي قد لا تقتصر مستقبلاً على العاصمة بغداد، بل تتعداها إلى المدن الرئيسية الأخرى.

العنف الذي قوبلت به التظاهرات من قبل القوات الأمنية أو من تزيّ بزيها واستخدامها الرصاص الحي والمطاطي والغازات المسيلة للدموع هو الصدام الدموي الأول خلال حكم حيدر العبادي، وبمثابة إعلان نعي لمشروع الإصلاحات الذي جاء به.

وصلت العملية السياسية في العراق إلى حالة الشلل التام، وأصبحت الدولة على حافة الانهيار، فمجلس النواب غير قادر على الانعقاد لاستكمال تركيبة وزارة التكنوقراط التي يريد الصدر وخلفه المتظاهرون فرضها لعدم قدرة رئيس المجلس إقناع الكتل السياسية بالحضور لتحقيق النصاب القانوني بعد الهزة القاسية التي تعرض لها منصبه، وبعد أن تعرض مبنى المجلس للاختراق مرتين من قبل المتظاهرين وما ترتب على ذلك من تداعيات.

العبادي أدلى بكلمة مساء اليوم نفسه كشف فيها عن حجم المأساة التي تعيشها الطبقات المسحوقة من الشعب، والتي جاء لمنصبه بفعل أصواتها الانتخابية. كلمته لم تكن للتهدئة وامتصاص النقمة، بل للاتهام، في حين كانت كلمة الصدر دعوة للاستمرار بالتظاهر، فليس أمامنا في ضوء ذلك سوى توقع الانفجار قريباً.

يبدو أن السياسيين غير واعين لحجم الهوة التي باتت تفصلهم عن الجماهير، فالجوع والبطالة والإحباط واليأس والمعاناة عوامل ودوافع قوية للانفجار. إذ لم يسبق أن شهد الشارع العراقي وضعاً محتقناً حتى في أشد حالات توتر العلاقة بين الحكومة والشعب في العهد الملكي أو في العهود الجمهورية التي أتت بعده كالذي يشهده الآن.

فعشية سقوط النظام الملكي لم يكن التهميش والفاقة والحرمان الشديد، مشاعر أفقر طبقات المجتمع، هي من صنع هاجس الشارع العراقي الكاره لحكم الأرستقراطية المتفردة بشؤون البلد قدر ما صنعه ما كان يتردد في فضاءاته من أصداء لإرهاصات المثقفين الحالين بالقضاء على الاستعمار واجتثاث جذوره، مشاعر غاضبة صنعتها سلسلة أحداث مميزة في العراق والمنطقة العربية اقترنت بصعود الأفكار اليسارية والقومية واتساع شعبيتها، بدءاً بوثبة كانون عام 1949 التي أسقطت معاهدة بورتسموث، مروراً بانتفاضة 1952 ووصولاً إلى أحداث مدوية أخرى في منتصف الخمسينيات من القرن المنصرم..

الرفض لحلف بغداد، تأميم قناة السويس في مصر والعدوان الثلاثي عليها، وهي على أية حال دوافع لم تكن تتعلق مباشرة بالوضع الاقتصادي وبحالة العوز والفاقة التي كانت تعيشها بعض شرائح المجتمع العراقي، السمة المميزة لمبررات انتفاضته اليوم.

المطالبة بالإصلاحات تحولت بفعل الاستهانة بها وسوء مقاربتها من قبل الحكومة إلى أزمات، فما حدث في العشرين من مايو الجاري لن يكون الأخير في سلسلة المواجهات التي تتصاعد حدتها بين الحكومة والشارع الغاضب. فحجم التظاهرات والعزيمة التي يتسلح بها المتظاهرون لم يعد حزب الدعوة الحاكم وحده يتحسس خطورتها،بل الطبقة السياسية الحاكمة برمتها..

ولكن بدرجات متفاوتة. المستهدف بالدرجة الأولى هو التحالف الوطني الذي يحكم عن طريق أحد أذرعه، حزب الدعوة، منذ عشر سنوات وهو المسؤول الأول عما وصلت إليه حال العراق من خراب ودمار.

من هذا المنظور ليس من المتوقع أن تسمح الحكومة بتكرار ما حصل في العشرين من مايو الجاري، فهي ستعمد إلى الاستفادة مما لديها ولدى التحالف الوطني الذي ينتمي رئيس الوزراء إليه من علاقات مع قوى إقليمية يمكن أن تؤثر على زعيم حركة التظاهر مقتدى الصدر للتهدئة، ومنح المزيد من الفرص وتأجيل ساعة الصدام النهائي..

وإن لم تنجح في توظيف هذه القنوات أو أن هذه القنوات لم توفق في ثني الصدر عن المضي قدماً في مشاريعه، فهي لن تتورع عن استخدام العنف من جديد ولكن بعيداً عن المنطقة الخضراء، وسوف تلجأ كما عمد رئيس الوزراء السابق إلى توظيف الميليشيات المرتزقة التي تنتمي إلى جهة إقليمية.

على الصعيد السياسي تعمق تفكك التحالف الوطني، فكتلة الصدر وجمهورها الواسع أصبحت بعيدة عن التحالف في المواقف وفي السياسات، بل وصلت إلى حالة التصادم الدموي معها. فمع أن نسبة نواب التيار الصدري داخل التحالف الوطني لا تزيد على 20 % إلا أن جمهوره يفوق عددياً جماهير الفصائل الأخرى مجتمعة.

سر ذلك يكمن في حقيقة أن الصدر قد خطف الأضواء من الآخرين حين أخذ بخيار الانحياز للوطن وليس للطائفة. ففي الوقت الذي تلتزم الجماهير الصدرية بالشعارات الوطنية وتكتفي برفع العلم العراقي في تظاهراتها واعتصاماتها لم تتوقف فصائل التحالف الوطني الأخرى عن الاستمرار في خلط معتقدات الناس بأجندتها السياسية والعمل على ترسيخ الثقافة التي تعزز هذا النهج.

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button