نون والقلم

هل يمكن إلغاء المحاصصة في العراق؟

لا يزال الحديث عن حكومة تكنوقراط غير خاضعة للمحاصصة، يفرض نفسه في الأوساط السياسية العراقية، على المستويين الشعبي والنخبوي، وقد صوت المجلس النيابي فعلاً على نصفها تقريباً، في ظل ظروف يشهد فيها العراق دوامة من المشاكل، تعصف بوحدته، وتحت ضغوط وتهديدات الشارع الغاضب، قبل أن يعجز عن عقد جلسة أخرى لاستكمال هذه المهمة.

المحاور التي تُطرق في صالونات النخب السياسية حول هذه الحكومة، غير تلك التي يتم تداولها خارجها، الشق الثاني من المطلب المطروح، ذا طابع سياسي، يراد به إقصاء بعض الأطراف عن صناعة القرار، وهذا يطرح تساؤلات جدية حول إمكانية تحقيق ذلك.

ليس من المتوقع أن تسمح القوى السياسية الحاكمة في العراق، بتشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة، فذلك أمر من الصعب حدوثه، فالأيام التي أعقبت حادث اقتحام المنطقة الخضراء ومبنى المجلس النيابي، شهدت تراجعاً ملحوظاً في زخم المطالبات، فقد التقطت القوى الأخرى التي وجدت نفسها مستهدفة أنفاسها، وبدأت تدين أعمال الفوضى والاعتداء على البرلمان ومن يقف وراءها، وسط مطالبات بإحالتهم إلى القضاء وتهديدات باتخاذ أشد الإجراءات في حال تكرار ما حدث.

العراق بحاجة ماسة حقاً لذوي الخبرة والحس الوطني لإدارة شؤونه، ولانتشاله من الهاوية الاقتصادية والأمنية والتفكيكية التي يتجه نحوها، مطلب مشروع حين يتبناه الشارع العراقي، ويتظاهر ويعتصم من أجل تحقيقه. ولكن المطالب لا تتحقق لمجرد رفع شعارات المناداة بها، ولا يكفي أن تتبنى بعض القيادات شعار إلغاء المحاصصة، وتحشد الشارع خلف ذلك، لنراه قد تحقق على أرض الواقع، دون وجود أسس قانونية وجدت طريقها إلى التشريع، من خلال حاجة حقيقية وتوافر ظروف موضوعية.

الحديث عن إلغاء المحاصصة، مع الإبقاء على النظام الديمقراطي التعددي، يعني العودة إلى النظام الديمقراطي التقليدي، وهو وجود حزب يحظى بالأغلبية النيابية يتولى الحكم، وحزب أو أحزاب أخرى لديها أجندة مختلفة في مقاربة القضايا التي تمس حياة المواطن في موقع المعارضة. ولكن ذلك من الصعب أن يتحقق في ظروف الاستقطابات القائمة..

والتي لم تفقد حدتها منذ ثلاث عشرة سنة، لأن هناك قوى داخلية وأخرى إقليمية من مصلحتها إدامة ذلك، لأنها تتوجس من استغلال شعار إلغاء المحاصصة، لفرض هيمنة طائفة واحدة، تتمتع بأغلبية برلمانية على الوضع السياسي.

السمات الغالبة للحياة الحزبية في عراق ما بعد 2003، هي من حيث المبدأ، امتداد لما كانت عليه قبل هذا التأريخ في دول اللجوء، تجمعات تحت مسميات مختلفة، تتخندق حول انتماءاتها الإثنية أو المذهبية، مستثمرة الانتماء لهذه الهويات، التي وظفتها في محاربة النظام السابق، لإدامة نفوذها في النظام الحالي.

ويرجع السبب في ذلك، إلى التراجع الكبير في الدور السياسي للطبقة المتوسطة في المجتمع، والتي تميل عادة إلى تبني أجندة مدنية، بعد أن كان هذا الدور طاغياً على الشارع العراقي في أربعينيات وخمسينيات ومطلع ستينيات القرن المنصرم.

من الصعب إحصاء عدد الأحزاب والتنظيمات والكتل السياسية والمليشيات المسلحة التي تعمل في السر وفي العلن في الساحة العراقية، وليس من السهولة بمكان، التحقق من هوياتها وارتباطاتها، وسط الفوضى السياسية السائدة..

فعددها يتجاوز الثلاثين، إلا أن قلة منها له وجود ملموس ومؤثر في صناعة الأحداث، وهذه القوى تتمحور حول قيادات قومية أو دينية، أما القوى التي يمكن اعتبارها ذات طابع مدني عابر للقومية والدين والطائفة، فهي محدودة القدرات، لم تتمكن من إيصال سوى بضع عشرات من النواب إلى قبة البرلمان.

الخروج من نظام المحاصصة وتأسيس دولة المواطنة، يتطلب صياغة مشروع وطني، بعيداً عن الإرادات الإقليمية، وبعيداً عن سياسات الإقصاء والانتقام، ويتطلب وضع الماضي بكل أورامه وجراحاته وراء الظهر، ويتطلب انتماء حقيقياً لروح العصر ونكهته، وذلك ليس من السهل توقع حدوثه.

فقيادات الأحزاب حين كانت مشردة في الخارج في دول اللجوء في أمس الحاجة إلى التعاون والتنسيق مع بعضها، لم تتمكن، وربما لم ترغب، في صياغة مشروع كهذا، رغم سنوح الفرص لذلك على مدى عشرات السنين، بل عملت عكس ذلك، فكيف لها أن تصنع ذلك الآن وهي في موقع القوة، بعد أن امتلكت مقاليد السلطة واستحوذت على النفوذ السياسي والمالي، وحصل قادتها على الوجاهة السياسية.

هذه القيادات تمكنت من الحفاظ على مواقعها، رغم كل الفشل والإخفاق الذي رافق مسيرتها على مدى الثلاث عشرة سنة المنصرمة، وسخونة الأحداث التي مر بها العراق، والتي كان من البديهي، وفق أبجديات السياسة، أن يُصار إلى الإطاحة بها.

في بلد كالعراق، يشهد انقساماً مجتمعياً، وأزمة ثقة متبادلة بين الفرقاء السياسيين، وبقاء الروح الثأرية التي جاء بها سياسيو ما بعد التغيير، يبدو أن شعار إنهاء المحاصصة، لن يكون سوى بضاعة آنية للتداول والتسويق، سيصار إلى تسويتها والالتفاف حولها بالتوافق.

في ضوء ذلك، تبقى الأحزاب ذات الطابع الإثني أو الديني أو المذهبي، والتي تتمحور حول زعامات تقليدية توارثتها عائلياً مهيمنة على المشهد السياسي، وفق توافقات تديم مصالحها ونفوذها، وتبقى المحاصصة قائمة لحين توافر ظروف موضوعية تسمح بالتغيير.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى