قل أن اكتظت خطبة قصيرة ألقاها أردوغان في ملتقى عام عدداً من الهفوات كما حفلت بها خطبته في المؤتمر التركي-العربي للتعليم العالي الذي انعقد قبل أسابيع في اسطنبول. ففي عدد قليل من الكلمات اتهم الرئيس التركي جامعة الدول العربية، ومن ورائها الفكرة العربية، بأنها مصدر للشقاق في المنطقة.
بالمقارنة أشاد الزعيم التركي ببلاده التي «لا تنشئ جامعة تركية»، كما فعل العرب عندما أسسوا الجامعة العربية لأن تركيا- هنا أيضاً خلافاً للعرب- حريصة على الوحدة الإسلامية. وخلص الرئيس التركي في كلماته القليلة إلى الجزم بأنه مع قيام منظمة التعاون الإسلامي (التي يرأسها أردوغان) لا مجال لاستمرار الجامعة العربية، داعياً الدول العربية إلى التخلي عنها وعن نظامها الإقليمي ومؤسساته وصب جهودها في منظمة التعاون.
إن اقران جامعة الدول العربية بأنها مصدر للانشقاق وحاضنة للانقسام فيه افتئات ليس على هذه المؤسسة فحسب، بل أيضاً على العرب، ونيل من أمانيهم الجماعية وحقوقهم الإنسانية. فالبديل عن الجامعة كان دخول الدول العربية الساحة الدولية متفرقة ما يعمق ضعفها وعجزها في مواجهة الدول الكبرى التي كانت تطمع في السيطرة على المنطقة، بعد الحرب العالمية الثانية، بصورة مطلقة ومباشرة، أي تكرار لما حدث بعد الحرب العالمية الأولى.
تأسيس الجامعة ساعد الدول العربية على تحسين وضعها التفاوضي في الساحة الدولية، وبالتالي الحصول على بعض الحقوق الوطنية التي لم تكن لتحصل عليها فيما لو كانت دولاً مشتتة. فضلاً عن ذلك فإن قيام الجامعة والمناخ الذي ساهمت في إرسائه ساعدا على حل العديد من المشكلات التي ورثتها الدول العربية من المرحلة الاستعمارية التي تفاقمت أحياناً بعد نهاية هذه المرحلة.
إن الدول العربية التي عملت على تأسيس الجامعة لم تجتهد في تنمية روح التعاون والتنسيق والتفاهم بين الدول العربية الأعضاء في الجامعة فحسب، بل عملت أيضاً على خلق مناخ ودي وصديق شمل دول الجوار، وفي مقدمتها تركيا وإيران. فقبل أن تتأسس الجامعة اطلعت القيادة العربية القيادة التركية ممثلة بالرئيس التركي عصمت اينونو، على مشروع تأسيس الجامعة، كما جاء في «الكتاب الأزرق»، فبارك الزعماء الأتراك هذا المشروع ووعدوا بالتعاون معه. لم يقل أحد من الزعماء الأتراك أن هذا المشروع يتوخى شرذمة المسلمين، بل على العكس من ذلك فهموا أنه مشروع يرمي إلى جمع الدول العربية في منظمة إقليمية واحدة تعود بالخير والأمن على أعضائها وعلى جيرانها معاً.
وقد انطوت المقارنة بين تركيا التي لم تنشئ جامعة خاصة بها، وبين العرب الذين انشأوا الجامعة على خطأ صريح، كما أشرنا أعلاه. صحيح أن تركيا لم تنشئ جامعة تركية إقليمية، ولكن هذا الموقف لم يكن خياراً أردوغانياً، بل كان سياسة هندستها النخبة الكمالية التي حكمت تركيا قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. ولئن كان أحد أبرز عناوين هذه السياسة الابتعاد عن المغامرات الخارجية، فإن هذه السياسة هي اليوم عرضة لمراجعة مستمرة يقوم بها أردوغان.
أما القول إن تركيا لم تنشئ «جامعة تركية» فهذا القول فيه بعض الصحة. صحيح أن تركيا آثرت إبان المرحلة الكمالية أن تبقى على الحياد، ولكن تركيا الأردوغانية داخلة في نزاعات إقليمية حادة مع روسيا وأرمينيا واليونان وقبرص. الأهم من ذلك أن تركيا لم تنشئ نظاماً إقليمياً يحمل اسمها ولكن هذا لا يعني أنها ليست عضواً في منظمات إقليمية تشبه الجامعة العربية، أو تفوقها تأثيراً. إنها عضو بارز في الحلف الأطلسي الذي كان أحد أدوات الصراع الرئيسية في الحرب الباردة. ولقد لعب الحلف الأطلسي، ولايزال يلعب دوراً كبيراً في المنطقة العربية. فقد ساند الحلف فرنسا في حرب الجزائر. كذلك قدم الحلف مساعدات كثيرة إلى «إسرائيل».
40 2 minutes read