لابد أن بيننا الكثير ممن جربوا البعد القسري، عن أوطانهم، ثم جاءت لحظة الانفراج، فوجدوا أنفسهم على متن طائرة أو باخرة أو سيارة في طريق العودة إلى مربع الطفولة، ومرتع الشباب ومتكأ الشيخوخة ومرقد المال.
جرب جانب من المبعدين قسراً عن مدنهم وقراهم الجميلة، مثل أهل عدن إحساس السعادة، بعد أن تم تجهيز مطار عدن الذي قامت بإعداده وتجهيزه دولة الإمارات في غضون أشهر، فبدأ باستقبال أول فوج من العائدين، الذين علت وجوههم الابتسامة، ربما لأنه ولأول مرة يدير المطار فنيون من أبناء الجنوب خلال ربع قرن، استفردت فيه الإدارة الصالحية، بما تبقى من حركة، بعد أن اتخذ صالح قراره بأن يفقد المطار خدماته في الحركة الدولية، فلم يسمح للطيران الدولي باستخدامه وحتى «اليمنية» الناقل الوطني لليمن، لم تضع إطاراتها العتيقة على مدارجه.
وكان المسافر الجنوبي يتوقف في صنعاء ثم يلجأ لاستعمال الرحلات المحلية إلى عدن، أو استخدام سيارات الأجرة، ولا مانع من الانتقال براً على ظهور الحمير، تنفيذاً لوعد صالح القميء، بإعادة عدن والجنوب إلى العصور الوسطى.
لا مانع اليوم، وفي ظل هذه الأحداث الجسام التي تعيشها المنطقة أن نناقش حدثاً ليس بحجم محادثات جنيف أو الكويت، لكنني أجزم بأن بعض الأحداث الثانوية أكثر أثراً وبعداً تاريخياً عن أمور كبرى، ينتهي مفعولها بعد حلها، وتظل القضايا الإنسانية الأكثر التصاقاً بالذاكرة يتناولها الباحثون والمؤرخون، جيلاً بعد جيل.
أذكر على سبيل المثال رواية سمعتها مؤخراً على لسان أحد قادة الجنوب في العهد الماركسي، يقول إنه كان ضمن وفد قابل الشيخ زايد، طيب الله ثراه، في حقبة السبعينات. كان رحمه الله رحيماً. بإخوانه الجنوبيين ويعرف طبيعة الظروف الاقتصادية للجنوب، آنذاك، ويستقبل مسؤولين من الجنوب، ويقدم لهم الدعم من دون أن يعلن عنه.
يقول الراوي إنهم وفي جلسة المحادثات سأل الشيخ زايد إن كان في الجنوب نخيل عالي الجودة، وكان في نيته استقدام أنواع من نخيل الجنوب، حيث كان يعلم أن أهل اليمن، آنذاك، لا يزرعون النخيل، وقد جاء الرد ب«نعم» هناك نخيل في حضرموت، حيث يعتني الناس بالنخيل.
ثم تكر الأيام، ويأخذ الزمن مجراه، وتنشب حرب القبائل الماركسية أولاً، ثم حرب صالح التي أطلق عليها «حرب الوحدة»، ويشاء القدر أن يلجأ أعضاء الوفد القديم إلى أبوظبي، فيجدون من يرحب بهم.
ثم يختم محدثي بالقول: وهكذا شاهدنا في الإمارات أكثر من خمسين مليون نخلة زرعها زايد، وحوّل فيها الإمارات إلى حديقة كبرى، في حين انتزَعنا صالح من أرضنا ورمانا خارج وطننا لاجئين، وكان بيننا رئيس جمهورية ورئيس وزراء وعدد كبير من الوزراء.
كانت الرموز الجنوبية تتجمع في مدينة أبوظبي، وصالح يلهو داخل قصره في صنعاء، ليس بسبب قوته، إنما بسبب تمزق القيادات الجنوبية، وهو ما أثبته في شهادته المرحوم سنان أبولحوم، الذي قال لجريدة «الخليج» إن رفاق البيض تركوه معتكفاً في عدن، وشغلهم صالح بتوزيع العقارات والهبات، حتى يجد الوقت الكافي لإعداد وتجهيز وحداته العسكرية للإجهاز على عدن أولاً، ثم على الجنوب بأكمله.
وبدت علامات الحسرة على محدثي، حين قال «ليتنا لجأنا إلى زراعة النخيل عوضاً عن زراعة الشعارات».. وها هي الإمارات تذهب إلى عدن عاصمة الجنوب، والبيئة الطبيعية تماثل إلى حد كبير البيئة الطبيعية في الإمارات.
إن تحويل مطار عدن للخدمة الدولية كان حلماً فتحقق، والمطار لا تقتصر خدماته على ما يقدمه من تسهيلات لمن ضاقت بهم السبل، وباعدت بينهم الأيام وتناثرت أسرهم في كل البلاد للعودة إلى الوطن والأهل والسكن ووسائل العيش الكريم، إلّا أن لافتتاح مطار عدن انعكاسات كبرى على الأوضاع في الجنوب في الحرب وفي السلام.
مشروع إعادة الحياة إلى مطار عدن فكرة إماراتية بامتياز، بعدما شغل جيش الإمارات نفسه بإرساء دعائم الاستقرار وصيانة أمن الجنوب، انطلاقاً من مدينة عدن، وكما دلت الحقائق وأكدت الأيام وسير الأحداث، فقد شكلت مدينة عدن الجوهرة المفقودة للغزاة الحوثيين، وتمكنوا في فترة قصيرة من اجتياحها، وجاء الحزم وجيش الإمارات المحب.