نون والقلم

ديمقراطية الأغنياء في أمريكا

يطرح مسار سير الانتخابات الأولية الأمريكية داخل المعسكرين الجمهوري والديمقراطي، أسئلة كثيرة بشأن صلاحية وفعالية النظام السياسي الأمريكي، وعن قدرته على تجسيد تطلعات كل شرائح المجتمع على اختلاف توجهاتها السياسية وانتماءاتها الاجتماعية والعرقية. فقد أشارت مجمل المتابعات السياسية لهذه العملية الانتخابية إلى أن اختيار المندوبين الذين يعملون على ترشيح المتنافسين للانتخابات الرئاسية المقبلة، لا يخضع لقواعد الشفافية الديمقراطية، لأن هؤلاء المندوبين لا يتم اختيارهم من طرف الناخبين بشكل مباشر، وبالتالي فإن النظام الانتخابي المتبع في الولايات المتحدة يسمح لشخصيات أقل شعبية بالفوز على شخصيات سياسية أخرى أكثر شعبية وربما أكثر مصداقية منها.
هناك من ناحية أخرى شعور متعاظم في الولايات المتحدة بأن الإرادة الشعبية تقف عاجزة عن مواجهة هجوم المال السياسي الذي يكاد يحول الولايات المتحدة إلى دولة بلوتوقراطية، يمارس فيها الأثرياء ورجال الأعمال سلطة تتجاوز نطاق صلاحياتهم الاقتصادية ويسعون إلى فرض رؤاهم وتصوراتهم على مجموع النخب السياسية في البلد. ونستطيع أن نستنتج بناءً على قراءتنا للمشهد السياسي الأمريكي، أن تحالف الأثرياء مع البيروقراطية الهرمية للدولة الأمريكية، جعل الولايات المتحدة تتحوّل بسرعة كبيرة إلى أكبر دولة أولغارشية في العالم تهيمن فيها نخبة من الأقلية المالية والبيروقراطية على الشأن العام، وقد سمحت الانتخابات التمهيدية الأخيرة إضافة إلى التنافس السياسي الجاري داخل الحزبين الكبيرين بإظهار الولايات المتحدة الأمريكية على صورتها الحقيقية، بوصفها دولة تملك واجهة انتخابية صاخبة، ولكن بمضمون ديكتاتوري تمارسه الأقليات النافذة داخل النسق السياسي الأمريكي.ولا مندوحة من الاعتراف بأن تصريح غريم هيلاري كلنتون داخل الحزب الديمقراطي، كان واضحاً إلى أبعد الحدود بشكل لم يترك أي هامش للتأويل أو المزايدة على مضمون الديمقراطية الهوليودية في أمريكا، حيث أكّد بيرني ساندرز أنه خسر في مواجهة كلينتون لأن الفقراء لا ينتخبون، ويمثل ذلك في اعتقاده حدثاً بسيطاً وواقعاً محزناً بالنسبة للمجتمع الأمريكي. وقد استطرد ساندرز قائلاً في السياق نفسه، إنه إذا ما أمكن لأمريكا أن تصل إلى نسبة مشاركة في حدود 75 في المائة من الناخبين الفقراء فإن صورة البلاد ستتغير بشكل كامل، لاسيما وأن الإحصاءات الرسمية المعلقة بالانتخابات في الولايات المتحدة تشير إلى أن أمريكا تتصدر ذيل القائمة بالنسبة للدول الغربية التي تشهد عزوفاً كبيراً للمواطنين عن المشاركة في المواعيد الانتخابية، وبخاصة لدى فئات الشباب والعمال البسطاء ومحدودي الدخل والعاطلين عن العمل.

ويمكننا أن نزعم في سياق هذه العجالة، أن حركة «احتلوا وول ستريت» التي أخذت أبعاداً عالمية، جاءت كرد فعل على جشع الرأسماليين وعلى هيمنتهم على مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية وفي مجمل الدول الغربية الكبرى، وعلى اختلاط وتداخل المال مع السياسة، وأكّدت تلك التظاهرات، في اللحظة نفسها، أن العالم بات الآن في انتظار ربيع سياسي حقيقي وأكثر جدية في أمريكا والبلدان الغربية التي ترعى بنوكها ومؤسساتها المالية الفساد العالمي وتعمل على تدمير الدول الوطنية من الداخل.
ويلاحظ المتابعون للشأن الأمريكي، أن هناك انجذاباً كبيراً من قبل الناخبين الأمريكيين نحو الخطاب الشعبوي الذي بلوره ترامب لدى اليمين، وساندرز لدى اليسار الديمقراطي، لاسيما بعد التراجع الكبير الذي شهده مستوى الدخل الفردي لقطاع واسع من الأمريكيين نتيجة الأزمة الاقتصادية الحادة التي ما زالت تعصف بالولايات المتحدة منذ سنة 2008. بيد أن الخطاب السياسي الذي تروِّج له النخب السياسية الأمريكية لا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى جشع النخب المالية التي تسعى إلى المحافظة على مكاسبها، حتى وإن أفضى ذلك إلى إفقار مزيد من الأمريكيين، كأن النظريات السياسية المتعلقة بقيم العدالة والإنصاف التي تحدث عنها الفيلسوف الأمريكي جون راولز، موجهة إلى سكان كوكب آخر، وبخاصة في مرحلة تغول وتوحش الأوليغارشية الجديدة التي تركت هامشاً كبيراً من الحرية للأثرياء من أجل استعمال النظام الضريبي للدولة بهدف المحافظة على العوائد المالية الضخمة التي يحصلون عليها.
ويقودنا هذا التحليل الذي نحاول بلورته بشأن الممارسة السياسية في أمريكا إلى استنتاج أن الطابع الأوليغارشي للدولة الأمريكية الذي تعمل ديمقراطية الواجهة على تهذيبه وتلميع صورته، لا يحتاج إلى برهان وبخاصة إذا وضعنا في حسباننا أن النظام الأوليغارشي يعني من حيث منطلقاته الأساسية ومعانيه الدالة، تمكن مجموعة صغيرة من الأشخاص من الوصول إلى السلطة وإخضاعها لنظام سياسي، وإلى تنظيم إداري، وهرمي مغلق، لأن هناك ميلاً كبيراً من قبل كل الفاعلين السياسيين في الولايات المتحدة إلى المحافظة على نخبة حاكمة مسيطرة مالياً وإدارياً وذات استقلالية واضحة عن القاعدة الشعبية. وذلك في زعم هو ديدن كل تنظيم سياسي شمولي، من حيث إنه يميل أثناء سيرورة تطوره الطبيعي إلى خلق أوليغارشية حاكمة قادرة على المحافظة على البنية الهرمية والبيروقراطية للسلطة. ويمكننا أن نستنتج في محصلة هذه المقاربة السريعة للسياسة الأمريكية ولآلياتها الانتخابية، أن الديمقراطية التي تحلم بها شعوب المعمورة لا يمكن اختزالها في التغيير الذي يجعلنا ننتقل بعد مسار شاق ومضنٍ من عبادة الشخصية الفردية إلى تأليه النسق المُغفل الذي ترعاه الأوليغارشيات المتنفذة التي تسعى إلى تغيير الوجوه مع الحرص على الإبقاء على الجوهر الاحتكاري والمتسلط وغير العادل لقواعد اللعبة السياسية.

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى