ربما لقلة معرفتي بالآثار، أحببت تدمر أكثر من أي مكان آخر فيما رأيت: مصر أو اليونان أو لبنان. في تدمر لون وردي على الأعمدة المهجورة، لا يُنسى. وحكاياتها ساحرة وغامضة، وحكاية سيدتها زنوبيا، أسطورة جميلة للكبار والصغار.
إذن، أنا أحب تدمر. وأحب الموسيقى الكلاسيكية، وفي صورة خاصة يوهان سيباستيان باخ. وأحب الارتفاع النفسي الذي أرتقي إليه عندما أحضر حفلاً تؤدّيه فرقة كبرى. وعندما ذهبت إلى موسكو شابًا، كان أهم عندي الذهاب إلى مسرح البولشوي، الذي طالما سمعنا به، من أن أغطي قمة نيكسون – بريجنيف كما ينبغي.
لم أحب على الإطلاق، على الإطلاق، الحفل الذي أقامته الفرقة الروسية الفيلهارمونية في تدمر وعزفت خلاله مقطوعات سيباستيان باخ. ولم أحب اتصال بوتين بصديقه قائد الفرقة لكي يهنئه. طبعًا أعرف المغزى من الحفل. أعرف أن المقصود هو عودة تدمر إلى الحضارة بعد صور «داعش» المتوحشة، وبعد قتل التنظيم لعالم الآثار السوري الذي كرّس حياته للآثار الوردية البهية. لكن، ألم يبكر السيد بوتين في الاحتفال؟ وبدل إرسال الفرقة والمصورين والبث المباشر على التلفزيون الروسي، ألم يكن الأحرى إرسال المساعدات الطبية إلى مضايا ويبرود وحلب والرقة؟
ما هذا المظهر الحضاري المركب في خضم هذه الهمجيات التي بينها القصف الروسي للمدنيين؟ ما هذه الصورة في تدمر وسط صور الركام والنحيب الخارجة من حلب؟ ما هذا اللؤم البارد والمتوحش؟ ألم يكن في استطاعة السيد بوتين الانتظار حتى فناء آخر مخلوق في حلب، وبعدها يحتفل؛ حفلة في تدمر، حفلة في حلب؟
أقيم الحفل في تدمر على عجل كما يبدو، ولم يتسن للروس دعوة السيد أوباما والسيد كيري. وفي أي حال، كان السيد كيري منهمكًا في إعداد بيان آخر شديد اللهجة (جدًا) قرأه الناطق باسمه بوجه متجهم: ما يجري في حلب غير مقبول. لَهْ يا مستر كيري.. لَهْ. أنت تستعير المواقف الشهماء من السيد بان. هو أيضًا مثلك «قلق»، ويرى ذبح حلب غير مقبول. وربما ذبح سوريا أيضًا. كم هو مسل السيد بوتين ومحب للموسيقى. ورقيق المشاعر مثل «أشغاف» باخ.