نون والقلم

السعودية تستكمل «توسيع» مجلس التعاون

مجلس التعاون تجاوز مسألة انضمام المغرب والأردن إلى عضويته. تجاوز بعض تحفظات أعضاء في المجلس. وأزال تخوفات قوى سياسية في الرباط وعمّان وتوجساتها من تأثير ذلك على مسار إصلاحات داخلية في بناهما الدستورية والاقتصادية. تبدلت الظروف في السنوات الأربع الأخيرة. جاءت الدعوة إلى البلدين للانضمام إلى المجلس مع بداية رياح التغيير في العالم العربي ربيع 2011. جاءت في سياق السعي إلى ترسيخ حماية هذه المنظومة الإقليمية من التطورات العاصفة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتزامنت مع سقوط نظام الرئيس حسني مبارك وصعود تيار «الإخوان» الذين سرعان ما دفعوا بمحمد مرسي إلى كرسي الرئاسة بعد نيف وعام على «ثورة 25 يناير». وتزامنت أيضاً مع دفع قوات «درع الجزيرة» إلى البحرين لتوكيد ارتباط أمنها بأمن أشقائها، في وجه تدخلات إيران. وسبقتها خطوات وإجراءات اقتصادية واجتماعية لجأت إليها دول خليجية لقطع الطريق على أي احتقان داخلي. وبدت الدعوة طبيعية. فالمملكة الهاشمية معنية دائماً ببناء علاقات خاصة مع المجلس. إنها امتداد طبيعي لجغرافيته ولجزء كبير من تركيبته المجتمعية والقبلية. وتشكل منطقة عازلة بينه وبين المشرق العربي وإسرائيل. وثمة تاريخ طويل من التعاون بينها وبين بلدان الخليج أمنياً واقتصادياً، باستثناء ما شاب هذا التاريخ إبان الغزو العراقي للكويت. ومثلها كانت إلى حد كبير حال المملكة المغربية، على رغم البعد الجغرافي واختلاف التركيبة الاجتماعية. وتاريخ التعاون بينها وبين الخليجيين طويل، سواء على مستوى المساعدات التي تلقتها وتتلقاها، أو على مستوى الاستثمارات، وحتى على المستوى الأمني أيضاً.

في منتصف التسعينات، راجت في أوساط بعض النخب الخليجية دعوات إلى الاكتفاء بمجلس التعاون. بل نادت أصوات متطرفة بالابتعاد عن الجامعة القاصرة والعاجزة. وكان قيام هذه المنظومة، في 1981، نتيجة رغبة في توحيد اقتصادات أعضائها وسياساتهم على مختلف الصعد، في وقت برزت أهمية التكتلات الإقليمية حول العالم مع تقدم العولمة ورواج اتفاقات التجارة الحرة. لكنه جاء في ظل تحولات خطيرة على رأسها «الثورة الإسلامية» في إيران ورفعها شعار تصدير الثورة. ثم اندلاع الحرب بين الجمهورية الإسلامية والعراق. وكان انشغال النظام في بغداد بهذه الحرب مناسبة أيضاً لبناء كتلة يمكنها مواجهة تهديدات البعث لجيرانه الجنوبيين، على رغم دعمهم إياه في هذه الحرب. وعلى غرار هذا التوجه الخليجي، أُعلن في شباط (فبراير) 1989 قيام مجلس التعاون العربي من مصر العائدة إلى الحضن العربي بعد عزلها إثر اتفاقي كمب دايفيد، والأردن واليمن الشمالي، والعراق الخارج لتوه من الحرب. وكان الهدف السعي إلى تكامل اقتصادي. لكن الغالب كان طموح هذه الدول إلى أن تقود العمل العربي المشترك. لكن المجلس لم يعمّر سوى بضعة أشهر. انهار سريعاً مع الغزو العراقي للكويت في 1990. وفي الأصل لم تكن الجوامع المشتركة بين هذه الدول راجحة على التناقضات على صعد عدة تتعلق بالنظم والسياسة والاجتماع وغيرها من عناصر. وأُسّس غداة المجلس اتحاد المغرب العربي. وهدف هو الآخر إلى توحيد اقتصادات الدول الخمس، المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا. وإلى فتح الحدود أمام تنقل الأفراد والسلع والاستثمارات، والتنسيق الأمني والعسكري. واعتماد سياسة مشتركة في مختلف الميادين. كذلك تعثرت ولا تزال مسيرة هذا الاتحاد بسبب تضارب السياسات، خصوصاً الخلافات بين دولتيه الكبريين المغرب والجزائر، في قضية الصحراء خصوصاً.

لم تكن دول الخليج في العقود الماضية، خصوصاً بعد تحرير الكويت، تحتاج إلى عون أمني وعسكري. كانت ولا تزال ترتبط باتفاقات أمنية وعسكرية مع دول كبرى عدة. والتحول الكبير الذي قوض أركان الجامعة العربية بعد الغزو العراقي للكويت، أدى إلى قيام ما سُمي «إعلان دمشق». وضم إلى دول الخليج مصر وسورية. لكن اعتبارات عدة عجلت في دفن هذا الإعلان. فقد عولت القاهرة ودمشق على تعاون اقتصادي أو مساعدات توفرها الدول الخليجية النفطية. لكن المدد تأخر. وعول مجلس التعاون على قوات عسكرية من شريكيها الجديدين لتوفير الحماية لأمن المنطقة. لكن اعتراض إيران المرتبطة بعلاقات وثيقة مع الشام، وتحفظ دول عربية أخرى تخوفت من إقفال أبواب الجامعة، ثم رغبة الولايات المتحدة ضمناً في ألا يشاركها أحد في أمن الخليج، وفي تقليص دور القاهرة الإقليمي، فضلاً عن اعتبارات أخرى كانت وراء طي صفحة هذا الإعلان.

تحولات جذرية طرأت على المشهد الاستراتيجي في الإقليم. من الغزو الأميركي للعراق إلى هبوب رياح عاصفة في عدد من الدول العربية. ولم يعد الوضع اليوم كما كان عندما وجه مجلس التعاون دعوته إلى المغرب والأردن قبل أربع سنوات. انكشف الأمن الخليجي في المحيط الهندي، خصوصاً بعد تمرد الحوثيين بدعم إيراني فاضح. مثلما انكشف شمالاً. فقد سقطت دمشق بعد بغداد في قبضة إيران. وجاءت التطورات في مصر لتشغل القاهرة عن دورها الريادي في المنطقة. فقدت السعودية ركيزتين من ركائز الحد الأدنى لثبات الأمن القومي العربي. لم يعد أمامها سوى فك الطوق الذي أحكم عليها وعلى شبه الجزيرة كلها. فهي معنية بأمن الخليج مثل اهتمامها بأمن المشرق عموماً في وجه تمدد إيران. فهي تدرك أن الممرات الثلاثة، مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس، تربطها استراتيجية واحدة أساسية لصادرات النفط وحماية أمن مجلس التعاون. وكان لا بد من مقاربات مختلفة عجل بها انكفاء الولايات المتحدة عن الإقليم، وعدم تحركها فعلياً للحد من نفوذ الجمهورية الإسلامية.

لم تتوقف المملكة أمام شعارات الوحدة العربية التي لم تغن العالم العربي ولم تسمنه طوال عقود، بقدر ما زادت تفتيته وإنهاكه. وتجاوزت الدعوة إلى توسيع مجلس التعاون. سعت وشقيقاتها إلى إعادة بناء شبكة من العلاقات والتحالفات لتعوض ما فقده النظام الأمني العربي وأمن مجلس التعاون أيضاً. انخرطت في مساعدة مصر على تجاوز متاعبها الاقتصادية. فهي تدرك أن أرض الكنانة معنية بأمنها الذي لم ينفصل تاريخياً، من أيام الفراعنة، عن أمن الخليج والمشرق العربي برمته. ثم أطلقت التحالف العربي و «عاصفة الحزم» لاستعادة اليمن إلى الفضاء الخليجي، بعدما حالت ظروف عدة في العقدين الماضيين دون انضمامه إلى مجلس التعاون. ونجحت في ضم السودان ميدانياً إلى هذا التحالف بعد إخراجه من «جبهة» إيران. وقد عوض انخراط الخرطوم غياب المشاركة الميدانية للقاهرة التي لم يكن متوقعاً منها إرسال قوات إلى اليمن. إذ لم يكن متوقعاً من الرئيس عبدالفتاح السيسي أن يقدم على خطوة كهذه وهو يسعى إلى ترسيخ حكمه ويقود معركة واسعة ضد الإرهاب في سيناء. أو أن يعيد إلى ذاكرة المصريين ما حل بقواتهم في ذلك البلد إبان الستينات من القرن الماضي! وذهبت المملكة بعيداً بإعلان التحالف العسكري الإسلامي لمحاربة الإرهاب. وأعادت الحرارة إلى علاقاتها بتركيا. ولم تتوقف عند الخلافات العميقة بين هذه ومصر. توجهت إليها حليفاً طبيعياً، على رغم علاقاتها التجارية الوثيقة مع الجمهورية الإسلامية. وسعت ولا تزال لترميم الجسور بين أنقرة والقاهرة. وكان من نتائج القمة الأخيرة التي عقدها الملك سلمان بن عبدالعزيز مع الرئيس السيسي موافقة الأخير على إرسال وزير خارجيته إلى اسطنبول للمشاركة في قمة منظمة التعاون الإسلامي. وقد تشهد الأيام المقبلة تطوير العلاقات مع باكستان التي لم تترك مناسبة إلا وأكدت فيها أن أمن الخيلج جزء من أمنها القومي. تجاوزت الرياض في هذه التحالفات الواسعة ما كان دعا إليه الأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى في قمة سرت العربية العام 2010، يوم نادى بقيام ما سماه «رابطة دول الجوار العربي».

في القمة الخليجية – المغربية قبل أيام، حلت الشراكة الاستراتيجية بين المغرب ودول مجلس التعاون محل العضوية الكاملة. وفي قمة الملكين سلمان وعبدالله الثاني، حل مجلس التنسيق السعودي – الأردني محل العضوية. تجاوزت الرياض تباينات في السياسات بينها وبين الرباط وعمان، في سبيل مواجهة «التحديات نفسها ولا سيما في المجال الأمني» لهذه الأطراف الثلاثة، كما سماها الملك محمد السادس. ثمة حاجات مشتركة أمنية واقتصادية تربط بين دول التعاون والمملكتين المغربية والهاشمية. ولم تهمل السعودية الموضوع الاقتصادي والاجتماعي. لم تعد تعتمد على «جوائز ترضية» لتخفيف مشاكلها الاجتماعية في الداخل لعلها تجتاز الأزمة التي تنذر بأفول عصر النفط. طرحت «رؤية المملكة 2030». وعلى قاعدة هذه الرؤية في الداخل، وقاعدة «توسيع» مجلس التعاون وفضائه وإخراجه من انعزاله واتكاله على أميركا والغرب، تؤسس الرياض لجامعة عربية جديدة، ورابطة تعاون تتجاوز حدود المنطقة العربية والعالم الإسلامي، إلى روسيا والصين والهند.

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى