عرفت الدولة الإيرانية خلال تاريخها المعاصر تحولات عدة، ترتبط بنمط تفكير قياداتها ونخبها السياسية منذ بداية القرن الماضي إلى غاية الألفية الجديدة، وكان لنظام حكم الشاه دور كبير في إدخال إيران إلى مرحلة الدولة المدنية المعاصرة، وكل ما يتصل بها من قيم الحداثة والمعاصرة، بالرغم من كل التجاوزات التي ارتكبتها الشرطة السرية بحق المعارضين. فقد عرفت إيران منذ سنة 1925 تحولات كبيرة على مستوى إدارة وتحديث مؤسسات الدولة، ونشر التعليم، وترقية المرأة، وتقديم إصلاحات على مستوى تسيير الأراضي الزراعية التي كان يسيطر عليها كبار الملاك.
بيد أن ضيق أفق المؤسسة الحاكمة في إيران آنذاك، جعلها تعجز عن فهم طبيعة التغيّرات الدولية والإقليمية، ولم تتمكن بالتالي من استباق التحولات التي كانت تجري على مستوى المجتمع الإيراني، الذي كان يرى أن الحداثة، بشقيها المادي والفكري، لا تكفي، إذا لم تكن مدعومة بخيارات ديمقراطية وبتعددية سياسية قادرة على استيعاب كل المكونات الفسيفسائية للمجتمع الإيراني.
ونستطيع الزعم في هذا المقام، أن ثورة الشعب الإيراني على نظام الشاه لم تكن دينية في البداية، فقد تصدرت القوى اليسارية والليبرالية مشهد الثورة منذ سنة 1977، لكن الجرأة المعهودة لرجال الدين، والاحترام والتقديس الذي يحظى به الخطاب الديني لدى الشعوب العربية والإسلامية، سمح للتيار الديني بالانقضاض والسطو على مسار الثورة؛ تماماً كما حدث لاحقاً في مصر بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، عندما قام الإخوان بركوب موجة الثورة بعد انطلاقها، وحاولوا السيطرة على مؤسسات الدولة المصرية، وسعوا إلى إخضاعها لسلطة الجماعة.
لقد كانت الدولة المدنية الإيرانية في عهد الشاه دولة قومية تسعى إلى الدفاع عن أجندة داخلية، بالرغم من علاقاتها القوية مع الغرب والولايات المتحدة التي كانت تدفعها إلى لعب دور شرطي المنطقة.
أما في ما يتعلق بنموذج الدولة الإيرانية الحالية الذي يسعى إلى تكريسه رجال الدين، فإنه يشوه في اعتقادنا المفاهيم السياسية والقانونية للدولة الحديثة، بخاصة عندما أقدم رجال الحوزة الدينية على الإعلان عن تأسيس ما يسمى بـ«الجمهورية الإسلامية»، ليخلطوا بذلك بين التصورين المدني والثيوقراطي للدولة، في أول سابقة من نوعها في تاريخ الدول الحديثة في العالمين العربي والإسلامي، وهو تصور أسهم في إعادة إحياء مقولات الدولة الدينية، وصولاً إلى نشأة ما أضحى يعرف بتنظيم «الدولة الإسلامية» الإرهابي. وغني عن البيان أن نظام الحكم الجمهوري يشير، من حيث دلالاته ومعانيه السياسية والقانونية، إلى أسلوب غير كلاسيكي في تسيير شؤون الدولة ومنظومة الحكم، لأنه يدعي الجمع ما بين فضائل الحكم الملكي والأرستقراطي والديمقراطي في اللحظة نفسها، بخاصة بعد أن أصبحت الجمهورية تشير بعد انتصار الثورة الفرنسية إلى كيان دولوي غير مسبوق على المستوى التاريخي، من حيث اعتماده على مفاهيم فلسفة العقد الاجتماعي من جهة، ومن حيث ارتكازه على الديمقراطية التمثيلية مضافة إليها مبادئ ذات سمة عالمية وظيفتها تحقيق وحدة المواطنين، وتجسيد قيم الحرية والمساواة والإخاء، من جهة أخرى. الأمر الذي يتعارض بشكل مطلق ولا لبس فيه، مع مفاهيم ومقولات الدولة الدينية، التي تجعل سلطة رجال الدين تفوق سلطة وسيادة المؤسسات التمثيلية المنتخبة، وتجعل فضلاً عن ذلك رجال الدين غير خاضعين للمساءلة والمحاسبة.
لا شك في أن الشعب الإيراني كان يطمــــح، عندما فجر ثورته مع نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، إلى تأسيس دولة مدنية منفتحة ومتفتحة على كل أبنائها، علــــى اختلاف طوائفـــهم وأعراقهم، ولم يدر في خلد الشباب المتظاهر أن هناك من يريد استبدال حكم فردي متسلط بحكم فردي آخر أكثر تسلطاً، عنوانه الأبرز ولاية الفقيه، حكم ثيوقراطي يمارس فيه المرشد الأعلى للثورة دور القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويملك القدرة على التحكم في السلطة القضائية، وعلى توجيه السلطة التشريعية، كما يمكنه في اللحظة نفسها، أن يعطل صلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب وفق آليات الاقتراع السري المباشر. وبالتالي فإنه، وبالرغم من وجود رئيس إصلاحي منذ سنة 2013، فإن السلطة الحقيقية في إيران هي الآن بيد المحافظين الذين يدافع عنهم ويرعى مصالحهم المرشد الأعلى، الذي لم يتردد خلال سنة 2009 في دعم مرشح المحافظين.
وتجدر الإشارة إلى أنه وإضـافة إلى الجوانب التي تقدم ذكرها، فإن النزوع السلطوي للنظــــام ازدادت حدته مع مرور السنين، وتراجعت لديه أهمـــــية حقــــوق الإنسان بشكل لافت، حيث حطمــت إيران سنة 2015 الرقم القياسي في نسبة تنفيذ أحكام الإعـــــدام التي تجاوزت وفـــق المنظـــمات الحقوقـــية الدولية 966 عمـــليــة إعــدام.
ويمكن القول في محصلة هذا التحليل، إن التيار الديني قد أساء كثيراً لثورات وتضحيات الشعوب العربية والإسلامية عندما تعمد تسييس الدين، وعمل على الزج بالإسلام الحنيف في أتون الصراعات السياسية الدنيوية، غافلاً كما قال المفكر المصري علي عبدالرازق، عن كون أن الإسلام لم يفرض على أتباعه نموذجاً محدداً أو ملزماً من نظام الحكم، وترك ذلك لاجتهادات المؤمنين وفق ما تفترضه ظروفهم وسياقاتهم الحياتية والتاريخية، بعيداً عن كل محاولات التوظيف السياسوي والتشويه الأيديولوجي، الذي يحرص على ممارسته دعاة ما يسمى بالدول أو الجمهوريات «الإسلامية» المزعومة.