نون والقلم

هذا العراق التعيس البائس

في روايته «الحبل» (التي أصدرتها «دار الجمل» بالعربيّة بعنوان «الفتنة»)، يعيد المثقّف العراقيّ كنعان مكيّة بناء عراق ما بعد صدّام انطلاقاً من حدثين أساسيّين:

– مقتل السيّد مجيد الخوئي يوم 10 نيسان (أبريل) 2003، أي يوم سقوط صدّام، على يد طرف شيعيّ آثرت الأطراف السياسيّة الشيعيّة جميعها أن تبيّض صفحته وتنفي التهمة عنه، على رغم أنّ رموز هذه الأطراف طويلاً ما كانوا أصدقاء المغدور وحلفاءه، وعلى رغم أنّه قضى بطريقة بالغة الوحشيّة.

– وإعدام صدّام حسين نفسه في 30 كانون الأوّل (ديسمبر) 2006 بالطريقة التي أُعدم فيها، وهي طريقة عشوائية وثأريّة، لكنّها قبل أيّ تعريف آخر طائفيّة في أوقح أشكال الطائفيّة وأكثرها استفزازاً.

الحدث الثاني رسم عراق ما بعد إطاحة الطاغية بلداً مشاعاً للحرب الطائفيّة التي كان ولا يزال مسرحاً لها، مباشرةً في 2006 ومداورةً في كلّ وقت، فيما الحدث الأوّل أعلنه مكاناً لانحطاط العلاقات الأهليّة، تضامناً وصراعاً، داخل «البيت الشيعيّ». فتحكيم المبدأ القَبَليّ «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمّي على الغريب» بالحياة الوطنيّة والسياسيّة الحديثة، لا يلبث أن يوسّع دائرة «الغريب» بحيث ينضوي فيها الأخ وابن العمّ اللذان لا يُحتكم في الصراع معهما إلاّ للدم.

هكذا يغدو كلّ عراقيّ غريباً وعدوّاً للعراقيّ الآخر فيما يضمحل العراق بوصفه بلداً جامعاً لمواطنين مختلفين لم يكترثوا بأن يكون لهم وطن.

والحال أنّ هذا البلد كما أعيد إنشاؤه بعد 2003 على الحدثين التأسيسيّين المذكورين بات وصفة إخفاق مطلق لا تكفّ عن هندستها النخبة الشيعيّة التي تحكمه.

فالأزمة السياسيّة متواصلة فيه، نشهد اليوم آخر تجلّياتها مع تعديلات حيدر العبادي الحكوميّة، بعدما تابعنا ظروف إزاحة ابراهيم الجعفري ثم إزاحة نوري المالكي، فضلاً عن الاستبعاد الفجّ للقيادات السياسيّة السنّيّة الواحد بعد الآخر.

يترافق ذلك مع ازدواجيّات كثيرة للسلطة، حيث «الحشد الشعبيّ» وميليشيات الأُسَر الدينيّة القروسطيّة وزعامة المالكي ومرجعيّة السيستاني، فيما لا يزال «داعش» يقضم أجزاء من الأرض، وإيران تقضم معظم السلطة الفعليّة التي أهداها لها زعماء صغار. وإذ تغدو السياسة في العراق صنواً للفساد الفادح، والسياسيّ صنواً للفاسد، تطلّ تحدّيات يستوردها الواقع من الأساطير، كالخوف من أن ينهار سدّ الموصل ويودي بحياة مليوني إنسان على الأقلّ!

ما لا شكّ فيه أنّ الباحث عن عناوين تصف الكارثة العراقيّة يقع على الكثير منها، يتصدّرها العنوان الكارثيّ عن استبدال صدّام حسين بعدد من الصدّامات المفتّتين الصغار. ولئن جاز دائماً نقد الاحتلال الأميركيّ، وبين أسوأ أفعاله تسليم السلطة لأمثال هؤلاء، فقد بات واضحاً أنّ الوظيفة الخفيّة للمبالغة في هذا النقد، حين تصدر عن حكّام بغداد، إنّما هي تحويل الأنظار عن أنفسهم ورفع مسؤوليّتهم عمّا هم وحدهم مسؤولون عنه.

فالعراق مشهد لا يخطئه البصر عمّا تفعله التوتاليتاريّة حين تصادر السياسة لعشرات السنين، وتمنع أدنى تعابير الاختلاف الذي يحتقن في صدور المعارضين الآتين من أوكار العمل السرّيّ ومن مخازن المؤامرات والدسائس، يحرّكهم الانتقام لجماعتهم الطائفيّة، ولا يجدون مثالاً لهم إلاّ في الطاغية المستبدّ الذي كانوا يعارضونه في المنافي.

هؤلاء لا يلوح لهم الزمن أطول من يومين أو ثلاثة، ينتقمون فيها من الطاغية وينهبون ما وسعهم النهب كي يحصّنوا أنفسهم حيال مصير كمصير ذاك الطاغية. وكما يصغر الزمن يتقلّص الوطن نفسه ليغدو عشيرة يعلوها طوطم صغير، يسكنه مثال طوطم كبير، فيما تستأجر إيران الطواطم وعشائرهم بأزهد الأثمان.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى