بعد رحيل جوزيف ستالين في 1953، بدأ الشرق الأوسط يرتفع في قائمة الأولويّات السوفياتيّة، وكانت سوريّة مدخل هذا التحوّل. ففيها، قبل مصر، بدأ كسر احتكار الغرب لتسليح المنطقة، من خلال صفقة سلاح تشيكيّة وروسيّة تراءى لـ «التقدميّين» العرب أنّها تكفّر عن ذنب الصفقة التشيكيّة التي ضمنت، عام 1948، التفوّق العسكريّ للمنظّمات الصهيونيّة ضدّ الجيوش العربيّة في فلسطين. وفي سوريّة، لا في العراق ولا في السودان، تمكّن الشوعيّون، منذ أواسط الخمسينات، من إحراز موقع مؤثّر في السلطة. ومعروف أنّ الخوف منهم، فضلاً عن الخوف من تركيّا، كان من الأسباب الدافعة إلى الانضواء السوريّ في وحدة 1958 تحت جناح مصر. أمّا في 1967 فكان النظام البعثيّ في سوريّة، الذي وزّر الشيوعيّ سميح عطيّة، النظام العربيّ الأقرب إلى قلب موسكو، متقدّماً في ذلك على النظام الناصريّ، علماً أن دمشق الرسميّة، لا القاهرة، كانت الأكثر راديكاليّة حيال الصراع مع إسرائيل. وأمّا منذ 1970، فبات حافظ الأسد القائمقام الأوّل للروس في الشرق الأوسط العربيّ، يحاولون أن يوازنوا به أنور السادات الذي اتّجه بمصر غرباً، ولا يرون على يديه دماء شيوعيّة كالتي اشتهر بها بعثيّو العراق وزعيمهم صدّام حسين.
ولئن لم تخلُ علاقات موسكو ودمشق الأسديّة من بعض التوتّر، في هذه المحطّة أو تلك، فإنّ محطّات التلاقي ظلّت أكبر كثيراً، محكومةً باستراتيجيّة سمّاها حافظ الأسد بلوغ التوازن الاستراتيجيّ مع إسرائيل، وإن عنت عمليّاً أوسع استثمار في الحروب الأهليّة المشرقيّة والإمعان في إضعاف المنطقة وتفتيتها.
على العموم، كانت روسيا السوفياتيّة إلى جانب سوريّة الأسد، وإلى جانب كلّ نظام عسكريّ يقول إنّه سيحارب الدولة العبريّة فيما يحكّم المخابرات بحركات مواطنيه وسكناتهم. فهي تعرف أنّها لا تملك إلاّ السلاح والعقائد العسكريّة تصدّرها وتمدّ فوقها النفوذ الذي تبتغيه في الشرق الأوسط. أمّا في السلع المدنيّة التي يحضّ عليها الخروج من العسكرة وأنظمة الطوارئ والتعبئة، فحال الروس مثل حالنا، لا يفضله إلاّ قليلاً.
صحيح أنّ روسيا البوتينيّة ليست الاتّحاد السوفياتيّ الشيوعيّ، إلاّ أنّ السياسات الخارجيّة لموسكو حافظت على درجة بعيدة من الثبات الذي تتخلّله اختلافات ضئيلة. وهنا اندفع بوتين في دعمه النظام السوريّ أبعد ممّا اندفع أيٌّ من أسلافه السوفيات، لكنّه اندفع أيضاً في دعم الموقف الضمنيّ لنظام الأسد من الصراع مع إسرائيل، وإن خالفته الأقوال والتصريحات المنسوبة إلى الرسميّين السوريّين.
فإعلان بنيامين نتانياهو ضمّاً نهائيّاً لهضبة الجولان السوريّة المحتلّة، وسط تنسيق مع بوتين الذي فوّضه الأسد أمر السيادة السوريّة، وما يتردّد في الإعلام عن رسم «خطوط حمر» و «حصص» يريد الإسرائيليّون ألاّ يغيبوا عنها، يوحي بدور روسيّ في تقسيم سوريّة المحتمل لا يقلّ عن الدور السوفياتيّ في تقسيم فلسطين قبل سبعة عقود. وهذا ما يتجانس تماماً مع نظريّة «سوريّة المفيدة» التي يصعب إدراج الجولان فيها، خصوصاً أنّ كلفة تحريرها أكبر كثيراً من أكلاف المناطق «غير المفيدة» الأخرى. ومن باب أولى في من يتخلّى عن الجولان أن يتخلّى عن فلسطين التي سبق للنظام الأسديّ أن تخلّى عنها عدداً من المرّات لا يفوقه إلاّ عدد المرّات التي أكّد على تحريرها.
وهذا أمر واقع آخر سيأمر به بوتينُ الأسدَ ليجد في المأمور أطيب الاستعداد لأن يؤمر. و «هل يمكنني»، كما قد يقول سيادة الرئيس، «أن أقف في وجه العالم؟».