نون والقلم

الإعلام العربي المأزوم

بعيداً عن تعريفات الإعلام ودوره وأساليبه وشخوصه ولغته، وبعيداً عن الخوض في مستوى استقلاليته وتبعيته أو موضوعيته، حيث لا يعترف كثيرون بأن الإعلام كان يوماً ما مستقلاً أو موضوعياً، بمعنى أنه يعاني منذ أن وُجد بحالاته المطبوعة والمقروءة والمرئية من تبعية متفاوتة المستويات، إلّا أن الذكاء المستخدم في توجيهه يختلف من وسيلة إلى أخرى، فمنه الإعلام المفضوح، ومنه الموارب، ومنه المدسوس، ومنه المجيش والمهيج، ومنه المصلح الاجتماعي والديني والأخلاقي، وفق انتماءات مختلفة ومتباينة.
القصة لم تنته هنا، حيث تسعى وسائل التواصل الاجتماعي للاطاحة إلى حد ما بكل الوسائل الإعلامية التقليدية، فقد أصبح بالإمكان رصد الانفعالات الجماهيرية، التي خرجت من القمقم، وتقف حيالها وسائل الإعلام عاجزة، فالصوت الواحد غاب كلياً، والإعلام الموجه لم يكن ذكيا، لأن هناك ألف وسيلة ووسيلة تقدم الجانب الآخر من القصة أو القضية.
وعلى الرغم من ذلك، لايزال بعض الإعلام التقليدي يتبع الأساليب القديمة ذاتها في طمس الحقائق وتلوينها، وفي إخفاء الهزائم وتجميلها، وفي تغطية الخلافات وترميمها أو ترقيعها، متناسياً ما يحدث في العالم من انفتاح أو انفجار في وسائل التواصل والاتصال.
بعض الإعلام العربي خرج من موضوعيته المتواضعة التي كان يحرص عليها في السابق، وأصبح أكثر مواجهة، بمعنى الإعلان عن مواقفه بوضوح، والتي تعكس بالضرورة مواقف الجهات التي تموله ويتبعها، ولهذا أصبح الإعلامي العربي الباحث عن فرصة عمل، يبحث عن توجهات الصحيفة التي تتفق ورؤاه وسياسته وانتماءاته واصطفافاته، وباختصار، انتقل الصراع السياسي إلى الوسائل الإعلامية بشكل واضح وفج أحياناً، وغبي أحياناً أخرى، ولم يعد تهمه الموضوعية.
الإشكالية الكبرى تكمن في أن وسائل الإعلام الموجهة العربية والغربية على حد سواء تقوم بغسل أدمغة المشاهد أو المستمع أو القارئ، ومقتنعة أكثر بنجاحها، طالما أن الوسيلة الإعلامية لا تتضمن أي مواقف أخرى مخالفة، وهذه معادلة مضحكة أحياناً. والمضحك أكثر قناعتها بأنها الأكثر مشاهدة أو استماعاً، وتنسى أن هناك اختراعاً اسمه (ريموت كونترول)، ينتشر في كل المنازل، يستطيع المشاهد من خلاله الانتقال إلى محطة أخرى، أو إذاعة أخرى، وقد يرى خبراً معاكساً أو مناقضاً للخبر الذي شاهده، أو استمع إليه قبل ثوانٍ، وقد يتابع تحليلاً لا يتفق بتاتاً مع التحليلات الإخبارية التي كان قبل قليل يتابعها، ويطرح السؤال الجوهري: من الصادق؟ وهل يمكن أن تكون الحقيقة لها أكثر من شكل ووجه؟
بعض إعلامنا العربي مضطرب اضطراباً قاتلاً في معظمه، ومن يتابع طرائق تناوله (للربيع العربي) منذ انطلاقه قبل ست سنوات تقريباً، سيشاهد تقلب المواقف بشكل يدعو إلى الاستهجان والعجب، فالرئيس الفلاني كان ديكتاتوراً وتحول إلى عادل ومحبوب، والتنظيم الفلاني كان جهادياً فتحول إلى إرهابي، بل إن التصنيفات طالت الشعوب أيضاً في تعميم قاسٍ قلما تشهده المجتمعات.
المؤسف أن نسبة كبيرة من المثقفين والكتاب والأدباء و(المبدعين) والأكاديميين انقلبت توجهاتهم رأساً على عقب، (وكيفما مالت الريح يميلون..)، ومن يراجع كتاباتهم قبل ست أو سبع سنوات مع ما ينشرونه حالياً سيصاب، بلاشك، بالدهشة وربما يصاب فوراً بالشقيقة أو بالجحوظ، الأمر الذي يجعل المتابعين يشككون في مواقفهم السابقة والآنية واللاحقة، لأنهم يتلونون وفق تلون المرحلة، ويصدق فيهم قول الحجاج بن يوسف الثقفي (أكلما تولّى عليكم أحد واليتموه..!).
بعض الإعلام العربي يمارس تعمية عجيبة باصطفافه الأعمى غير المدروس خلف التيارات المتناحرة، والذي أدى بشريحة واسعة من الإعلاميين أن يحرقوا أنفسهم بمواقفهم المعادية لدولة أو منظمة أو جهة سياسية ما، ويستخدموا لغة كالرصاص الخارق الحارق، المليئة بالشتائم والتخوين والسخرية والاستهزاء، والسؤال: ماذا سيفعل هؤلاء حين تعود الأمور إلى مجاريها، ويتصالح المتصارعون والمتحاربون والمتقاتلون؟ وكيف سيتعاملون مع زملائهم في المؤتمرات الإقليمية والعالمية؟ هل سيسرون إلى بعضهم بعضاً بكلمات تصالحية، فيشتمون الجميع الذين فرضوا عليهم الوقوف إلى جانبهم؟ أم أنهم سيقولون: إنها لقمة العيش يا زميلي العزيز، ويتعانقون؟
نحن نعلم أن لا وكالة أنباء ولا صحيفة أو مجلة أو قناة تلفزيونية مستقلة، لا في الغرب ولا في الشرق ولا في أي جهة من جهات الكرة الأرضية مستقلة استقلالاً تاماً، إلّا أن هناك من يقدم الخبر بذكاء ودهاء، وهناك من يقول فكرته في سياقات متعددة، وهناك من يكتب باللغة المبطنة، لتمرير الفكرة أو السياسة أو التوجه.
الإعلام دهاء وذكاء وسلاسة في تمرير الخبر بعيداً عن الفجاجة والمباشرة، والإعلاميون المحترفون يعرفون أن وكالات الأنباء العالمية، وهي تنقل الخبر، تدس موقفاً ما. ومازلنا نذكر كيف أن وسيلة إعلامية (وكالة أنباء شهيرة جداً) كانت تنقل أخبار الصراع الفلسطيني ««الإسرائيلي»» باستخدام فعل (اعتدت) حين يتعلق بعملية فدائية فلسطينية ضد قوات الجيش ««الإسرائيلي»». وكلمة (اعتدت) تحمل معنى يوضح أن الطرف الآخر ««الإسرائيلي»» معتدى عليه، وبالتالي فـ ««الإسرائيلي»» يدافع عن نفسه ضد (المعتدين)! والأمر ذاته، حين كان الإعلام ««الإسرائيلي»» ولايزال يستخدم مفردات مثل المخرب والإرهابي، لوصف الفلسطيني الذي يقاتل جنودهم الغزاة المحتلين.
نرى أن الإعلام العربي في حاجة إلى وقفة ليراجع لغته وأساليب معالجته للخبر، والكتاب الصحفيون في حاجة إلى مراجعة مماثلة، وهذا يحتاج إلى قرار سياسي، فالإعلام غير المحترف في حاجة دائماً لمن يوجهه.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى