الحوارات البناءة الهادئة الموضوعية الكلامية ميزة بشرية وإنسانية، تسهل التواصل الفكري والمجتمعي والنفسي بين الناس، وتزيل سوء الفهم والإشكاليات وترسخ الوضوح وتنتج الأفكار والمشاريع وتحفز على الإبداع، وتقرب المسافات وتعزز الصداقات، وتقسم الهموم وتزيلها، فلماذا يصدك كثيرون حين تطرح أمامهم موضوعاً أو فكرة أو تتحدث عن ظاهرة أو سلوك بقولهم: (الله يعين..)، فيقفلون الحوار ويقمعون مبادرة المشاركة والتواصل ويعززون الصمت ليتحول الحوار إلى حديث داخلي بين الفرد ونفسه، فلا يصل إلى حلٍ أو فكرةٍ أو مشروع أو مبادرة؟.
إن طرح الفكرة والرأي مشروع، تحفظه الدساتير الأممية جميعها، والجدل ينصب على كيفية هذا الطرح والأسلوب المتبع والنغمة والأهم من ذلك اللغة المستخدمة في الحوار، فالرأي الذي يصادر آراء الآخرين بلغة حاسمة صارمة لا رجعة فيها هو أسلوب غير حضاري، لأن صاحبه يريدك اتباع أفكاره وتحليلاته ورؤاه دون نقاش، وهذا قمع للآخرين، فكل فكرة قابلة للبحث والتحليل من زوايا متعددة، وكل مبدأ له استثناءات، والاجتهاد مشروع حتى في القوانين الموضوعة، وبعض الأئمة يبيح الاجتهاد في تفسير كلام الله، ولولا هذا الاجتهاد لما وجدنا المذاهب التي تمنح الإنسان خيارات، فالدين يسر وليس عسراً. أما الصمت، وعلى الرغم من أن أدبيات الخطاب العربي تمتدحه وتشجع عليه، إلا أن ذلك محصور في مقامات الحديث، فالصمت الدائم آفة الإنسان، ولا يعكس حكمة من أي نوع، فالحديث ضروري حيثما يستوجب الحديث.
البعض يلتزم الصمت في موضوعات السياسة والسلوكيات والقضايا المجتمعية، ويعتقد أنه في ذلك يحمي نفسه من تشكيل أعداء جديدين، ويحاول دائماً تسطيح الأحاديث وتحويل مسارات الحديث إلى فكاهة وهزل، وهذا الأسلوب أقرب إلى التهريج والهروب إلى الأمام تاركاً قضايا مهمة في حياة الإنسان دون التعرف إليها. فمن قال إن الحديث في السياسة يخلق المشاكل؟ طالما أن الحديث محكوم بالاحترام والتحليل العلمي وطرح وجهات النظر البناءة بلغة مؤدبة ومنطقية وموضوعية. ومن قال إن السياسة هي الشتم والتجريم والتخوين وتقسيم الناس في أطر وتصنيفات، السياسة ليست كذلك أبداً، والابتعاد عنها كمن يغلق على نفسه الباب ويضع على عينية ضمادة سوداء فلا يرى أحداً حتى نفسه. إننا ومنذ سنوات ونحن نتنفس السياسة وتحضر على موائدنا، فالعالم من حولنا يضج بالأحداث والمواقف والاصطفافات، وبما أننا جزء رئيسي من هذا العالم، فلا بد أن تكون لدينا وجهة نظر، وليس بالضرورة أن تكون عدائية أو متطرفة، فالموقف الحصيف الحكيم يكون حيث تقتضي الحكمة، والموقف القوي الصريح يكون حيث يجب أن تكون الصراحة، إذ من غير المعقول أن يثور حديث حول الجماعات المتطرفة والاتجاهات التكفيرية المستشرسة هذه الأيام، والتي تعمل على هدم الإنجازات العلمية والإنسانية، ولا يكون لنا رأي فيها، ومن غير المعقول أن يسعى الآخرون لتنفيذ مخططات تدميرية وعدوانية ونقف موقف الصمت تجاهه، ومن غير المعقول أن يقوم البعض ببث الأفكار الهدامة التي تعوق تقدم المجتمعات ولا نقف في وجهه، ومن غير المعقول أن نرى أناساً يمارسون الكراهية والتمييز والعنصرية ولا يكون لنا موقف تجاههم، ومن غير المعقول أن نرى من يقف في وجه تعليم المرأة وإعطائها فرصة للعمل ولا نصحح له رأيه.
هل يعكس بتر الحوار أزمة ثقة بين الناس؟ هذا سؤال حساس جداً ويحتمل الجدال والنقاش، لكن حساسيته يجب ألا تكون عائقاً أمام مناقشته بشفافية. قد تبدو هناك أزمة ثقة خاصة مع وجود أجناس وجنسيات متعددة المشارب والثقافات والسلوكيات، ومع وجود شرائح لا يهمها سوى مصالحها، ومع وجود أناس هدفهم الإيقاع بالآخرين واستقطابهم للاصطفاف معهم في معسكر معين. لكن هذا يشجعنا أكثر على فتح قنوات الحوار والنقاش، لاكتشاف التوجهات ومعرفة سياسات الناس الذين يقيمون بيننا ونعيش معهم، وطرح الحقائق واضحة في المواضيع كلها. وهنا يجب أن يكون الحرص والحذر واجبين وحاضرين، إضافة إلى التمتع بالقدرة على الاستماع والانصات الجيد واستشراف الفكرة المخبأة.
والبعض يعتقد أنه لا توجد أزمة ثقة بين الناس، لأننا نعيش في دولة قانون يتم تطبيقه على الجميع دون التمييز بين لون أو عرق أو نوع أو ديانة، لكن، وعلى الرغم من ذلك، يبقى النقاش هو الفيصل بين الناس، والمشاركة ضرورية.
الهارب من النقاش كالهارب إلى الظلمة، والمكتفي بالصمت كالمكتفي بعلمه، ولا أحد، كما نجزم، قد جمع العلم من أطرافه، ومن يهرب إلى الظلام سيبتلعه الظلام فلا يتقدم ولا يتطور وإنما يتراجع. فنحن في سباق مع المعلومة والحدث والفكرة والتحليل، وكل يوم يحمل جديداً في كل شيء.
نعود إلى الأشخاص الذين يصدوننا بقولهم: (الله يعين، والله يصلح الأحوال)، نحن نحترم صمتهم لكننا نقدر مشاركتهم حتى لو كانت ضئيلة ومتواضعة في الحوار، حتى لو كان دورهم طرح الأسئلة، فالخروج من الحرج في المشاركة في الحوار يكمن في طرح الأسئلة، وهو أسلوب كان يتبعه الفلاسفة، لمزيد من المعرفة والاستكشاف، والوقوف بوضوح على آراء الآخرين والتعرف إلى ثقافاتهم وتوجهاتهم. فإن كنت لا تحب المشاركة، لا تصمت، ولكن اسأل، ولا عيب في ذلك. والله المعين دائماً، ولا نكران في ذلك أبداً.
39 3 minutes read