في الخليج حيث الرفاه والاستقرار السياسي والتجانس الاجتماعي، من الصعب تقبل مصطلحات مثل التشدد والتطرف والاقصاء والتهميش ونبذ الآخر. كنا عندما نسمع عن تلك العمليات الارهابية التي تضرب البلدان الأخرى نظن أننا بعيدون كل البعد عنها، لأننا أصلاً بعيدون عن مسبباتها.
فلدينا استقرار ورضا شعبي عام ولدينا رخاء اجتماعي ونسبة فقر وبطالة متدنية. بالإضافة إلى ذلك فإن تركيبتنا الاجتماعية متجانسة الى حد كبير يجمعها عرق واحد، وثقافة اجتماعية واحدة، الأمر الذي يوفر نوعاً من صمام الأمان لمجتمعاتنا، يحصنها من الانفجار.
في الوقت ذاته تجمعنا ثقافة فكرية قائمة على التسامح وتقبل الآخر المختلف عنا، عرقيا ودينيا، وبالتالي فإن ثقافتنا الاجتماعية والفكرية بعيدة عن كل ما يسبب الاحتقان ويدعو الى الإرهاب. ولكن الإرهاب تسلل إلينا. بدأ يضرب المساجد ودور العبادة والأنكى من ذلك أنه يهدف الى ضرب تماسكنا وقيمنا، وكل ما نستند إليه من روابط ووشائج.
منذ القدم عاشت على أرض الخليج أعراق وطوائف مختلفة، جنباً الى جنب، دون أي تجاذب أو إقصاء، ولم تحدث أية حادثة تكدر صفو هذا التناغم الاجتماعي. فالقواسم التي تجمعهم أكثر بكثير من تلك التي تفرقهم.
هذا الوضع جعل سكان الخليج بعيدين كل البعد عن التفكير السلبي والإقصاء والتهميش الذي ظهر في بعض المجتمعات.
كان هذا الوضع سيستمر لولا تلك المتغيرات التي شهدها العالم. فانتهاء الحرب الباردة وانتهاء الحرب في افغانستان وظهور نظام عالمي جديد، والغزو الأميركي للعراق في 2003 أحدث شرخاً عميقاً في الثقافة العربية عموماً، وثقافة أهل الخليج بشكل خاص.
هذا الشرخ أو الجرح لم يعالج في الحال، بل ترك لكي يتقيح، وينتج عنه إفرازات قميئة، قادت الى الوضع الذي أصبحنا نواجهه اليوم.
ومما زاد الطين بلة، أن العولمة وما نتج عنها من سرعة اتصال وثورة تكنولوجية، جعلت من كل ما يحدث في العالم يؤثر علينا بشكل كبير. وسرعان ما تأثر الخليج بتلك المتغيرات خاصة الأيديولوجية منها.
فقد شهدت منطقة الخليج في العقدين الأخيرين تطورات أيديولوجية أدت الى ظهور فكر متشدد، أنبت منظمات وميليشيات مسلحة عسكرياً وفكريا وأيديولوجيا. هذا الفكر أنبت جماعات متطرفة جندت اتباعاً من جميع انحاء الأرض لتقاتل من اجل أهداف بعيدة كل البعد عن مصالحنا. ويمكن أن يكون أخطر ما فيها أنها بدأت في توجيه سهام رماحها لصدورنا، عوضا عن أن توجه لعدونا، بمعنى آخر فإن العدو الصهيوني لم يعد هدفاً رئيساً لمعظم تلك التيارات المتشددة في العالم العربي، بل أصبحت صدورنا هي الهدف.
فالقاعدة، مثلا، التي نشأت أصلا لتحارب الشيوعيين على الحدود الأفغانية، بدأت في توجيه سهامها نحو صدورنا منذ انتهاء الحرب في أفغانستان، أما داعش فهي ترى أن الخطر الذي يجب أن تتصدى لمحاربته ليس القوى الخارجية بل طوائف المسلمين المختلفة في داخل البلدان الإسلامية.
وما يخيفنا أن نسبة لا يستهان بها من أتباع تلك المنظمات هم من شبابنا، الذين انضموا اليها بدافع ديني، بينما تستغلهم تلك المنظمات المتشددة لتحقيق اهدافها السياسية. وهكذا اصبح شباب الخليج سهما وهدفا في آن واحد لتلك المنظمات. بمعنى آخر فإن الخليج اليوم لم يعد مجتمعات رفاه وصفاء، بل مجتمعات تعج بكافة المتغيرات الأيديولوجية التي تؤثر عليه وعلى العالم من حوله.
لقد ولّد الفكر المتطرف إرهاباً جديدا لم يفرق بين دولة لديها استقرار سياسي وبين دولة تفتقد ذلك الاستقرار، بين دولة تفتقد أسس الرخاء والأمن الاجتماعي وبين دولة تمتلك كل ذلك. فالتطرف الجديد هدفه السيطرة الكلية، وبالتالي قام على أساس إقصاء الآخر غير المتفق معه في أهدافه. التيارات المتشددة غير مستعدة للتعايش مع الآخر، بل رافضة لوجوده وسياستها العامة أنها موجودة وغيرها يجب أن لا يكون موجوداً، ولذا فهي غير مستعدة للتفاوض أو التعايش معنا.
إذاً فالخطر الذي تمثله تلك التيارات الفكرية الجديدة ليس فقط خطراً سياسيا بل هو فكري أيضا. فلقد غيرت تلك التيارات المتشددة حتى فكرتنا الكلاسيكية عن التطرف، وخلقت فكرا آخر قائماً على أساس الإلغاء والتهميش والإقصاء. لقد خلقت فكراً متعفناً رافضا للحداثة بكل أشكالها. لذا فالحل لا يكمن فقط في محاربة تلك التيارات عسكرياً بل فكرياً أيضا.
نقلا عن صحيفة البيان الإماراتية