من يقارن النزاعات العربية ــ العربية بالحروب العالمية يصاب بالحيرة والدهشة. فلقد عانت الأسرة البشرية حربين عالميتين أزهقت أرواح 85 مليوناً من البشر ودمرت عدداً من أهم مدن العالم وعواصمه، ولقد اشتركت في الحربين أقوى دول العالم، وأغلبية الدول الأعضاء في عصبة الأمم ثم هيئة الأمم المتحدة، واتصفت هذه الحروب بالشمول إذ كانت الدول الرئيسية التي اشتركت فيها مصممة على خوضها حتى النهاية، أي حتى تقضي على القوة العسكرية للدول المعادية قضاءً مبرماً وتجبرها على الاستسلام غير المشروط، وعلى تجريد الدول المنهزمة من كل ما يسمح لها بتهديد أمن الدول المنتصرة. رغم كل ذلك لم تستمر الحربان أكثر من ستة أعوام.
بالمقارنة مع الحروب الدولية التي تخوضها حكومات مستقلة في العالم فإن الحروب الأهلية التي بدأت في المنطقة العربية منذ مطلع هذا العقد لا تزال تفتك بمواطنين ينتمون إلى أمن موحد، ودول موحدة تجمعها روابط الثقافة والتاريخ والمصالح الاقتصادية والاستراتيجية مشتركة وموحدة. ورغم مرور سنوات كثيرة على بدء الحروب، ورغم المساعي المستمرة التي تبذلها أطراف أجنبية وعربية ومحلية لوضع حد لهذه الحروب، فهناك خشية من أن تستمر زمناً قبل أن تصل إلى نهايتها.
إن بعض علماء العلاقات الدولية لا يخرج من هذه المقارنة بما يبرر الحيرة أو الاندهاش. فالحروب لا تنتهي عبر المفاوضات وبالمساعي السلمية إلا إذا تأكد كل طرف من الأطراف الرئيسية المشاركة فيها بأن السلام التفاوضي سوف يضمن له مستقبلاً آمناً على الأقل. وفي تقدير بارباره والتر، الباحثة في المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية، أن الدول المتحاربة تستطيع أن تقدم مثل هذه الضمانات إلى بعضها بعضا. فالدول تمتلك السلطات الشرعية والفعلية التي تسمح لها بالالتزام باتفاقات وقف إطلاق النار، ومعاهدات السلام. فهي تبسط سلطانها، حتى في حال الهزيمة، على شعوبها وأراضيها، وبالتالي فإنها قادرة على إلزام هذه الشعوب بما تفرضه عليها المعاهدات مهما كانت مذلة ومنافية لمصالح الدول المهزومة.
مقابل ذلك فإن الحروب الأهلية تتطور في حال الفوضى، وتستمر حيثما تتشرذم الشعوب وتختفي السلطات وتتفكك مراكز القرار. وحتى إذا توفرت بعض شروط السلام لدى المتحاربين، وإذا وصل هؤلاء إلى حال الإعياء الشديد وافتقروا إلى وسائل الاستمرار في القتال فلانوا وفكروا في ولوج باب السلم والمصالحة، وجدوا أنفسهم يبتعدون قسراً عن هذا الطريق، لأن الاستمرار فيه يقتضي تحقيق شروط متضاربة: فالسلم يتطلب من أطراف الحروب الأهلية أن تتخلى عن السلاح وأن تفكك التشكيلات القتالية حتى يطمئن الطرف الآخر إلى سلامة النية لدى الأطراف الأخرى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن السلم يشترط أن يحتفظ الطرف المحارب في الحرب الأهلية بقوته وبقدرته على مواصلة القتال حيث إن هذه القوة هي ضمانه الوحيد ضد التعرض إلى أعمال القمع والتنكيل والإبادة إذا تخلى هذا الطرف عن قواه العسكرية بينما ترك للآخرين الاحتفاظ بقواهم على حالها لاستخدامها في سحق الخصوم والأعداء.
إن هذا الوضع المعقد والملتبس يفرض على المنخرط في الحرب الأهلية أن يتمسك، في نفس الوقت، بسلاحه كاملاً، هذا من جهة، وأن يتخلى عنه برمته، من جهة أخرى، وهو يفسر بعض وقائع التاريخ ودروسه الصريحة. ففي هذه الوقائع إن التوصل إلى السلام بين الدول المتحاربة أسهل بكثير من الوصول إلى إنهاء الحروب الأهلية داخل الدول. هذا ما تؤكده أرقام وسجلات الحروب الحديثة بين عامي 1940 و1990، إذ دلت على أن 55% من الحروب التي وقعت بين الدول تمت عبر المفاوضات بين الدول المتحاربة نفسها، بينما لم تتجاوز نسبة الحروب الأهلية التي انتهت بنفس الطريقة عن 20% فقط من عددها الإجمالي، أما البقية الباقية من هذه الحروب، فقد انتهت بعد أن نجحت الأطراف المنتصرة المحلية على كافة أنواع القمع والقتل والتشريد والإبادة بالفرقاء المهزومين.
استناداً إلى هذه الأرقام يتوصل بعض المعنيين بالسلم الأهلي في المجتمعات التعددية إلى الاعتقاد بأن التدخل الخارجي هو الحل الأفضل للحروب الأهلية. فالقوة الخارجية قادرة على تجريد الأطراف المتنازعة من السلاح بصورة متوازنة بحيث لا يهتز توازن القوى بين هذه الأطراف على نحو يسمح لأحدها أو لبعضها من النفاذ من خلال اتفاقيات السلام إلى القضاء على المنافسين والأعداء المحليين.
ولكن القيام بهذا الدور يفترض أن تكون الفاعل الخارجي حيادياً وأن يكون همه محصوراً بالدرجة الأولى في وقف الحرب الأهلية. ولكن هذا الافتراض لم يكن دوماً في محله، وكثيراً ما كانت مصالح القوى الخارجية ومشاريعها وليس حاجات الأمن والسلام الإقليمي العربي هي العنصر المسير للتدخل الدولي في الصراعات العربية الداخلية.
لقد كان مستطاعاً إكساب التدخل الدولي في قضايا الصراعات العربية الداخلية المصداقية الكافية لو تم ذلك عبر مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة ولو تم تفعيل اللجنة العسكرية التابعة لمجلس الأمن. إلا أن هذا الأمر لم يتم حتى الآن وإصرار القوى الكبرى على تجاهل هذه اللجنة وإبقائها على وضعها الراهن الذي هو من مخلفات الحرب الباردة يحد من أهمية وفاعلية الدور الدولي في إبعاد أشباح الحروب الأهلية والعنف والإرهاب عن المنطقة واستطراداً عن المجتمع الدولي عموماً. والمطلوب هو التعجيل في عودة اللجنة العسكرية الأممية إلى العمل حيث إن الحروب الأهلية في تكاثر وتوالد وليس العكس.
0 3 دقائق